ثم اتبع ذكر المهاجرين بذكر الأنصار الذين كانوا في كل حال معه صلى الله عليه وسلم كالميت بين يدي الغاسل مهما شاء فعل ومهما أراد منهم صاروا إليه بقوله تعالى : { والذين تبوّؤوا } أي : جعلوا بغاية جهدهم { الدار } أي : الكاملة في الدور التي جعلها الله تعالى في الأزل للهجرة ، وهيأها للنصرة وجعلها محل إقامتهم . وفي قوله تعالى : { والإيمان } أوجه :
أحدها : أنه ضمن تبوّؤوا معنى لزموا فيصح عطف الإيمان عليه ؛ إذ الإيمان لا يتبوأ .
ثانيها : أنه منصوب بمقدر ، أي : واعتقدوا ، أو وألفوا ، أو وأحبوا ، أو وأخلصوا كقول القائل :
ثالثها : أنه يتجوّز في الإيمان فيجعل لاختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم ، فكأنهم نزلوه وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، وفيه خلاف مشهور .
رابعها : أن يكون الأصل دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه .
خامسها : أن يكون سمى المدينة به ، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان ، قال : هذين الوجهين الزمخشري ، وليس فيه إلا قيام أل مقام المضاف إليه وهو محل خلاف ، وهو أن أل هل تقوم مقام الضمير المضاف إليه فالكوفيون يجوّزونه كقوله تعالى : { فإنّ الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مأواه ، والبصريون يمنعونه ويقولون الضمير محذوف ، أي : المأوى له . وأما كونها عوضاً عن المضاف إليه ، فقال ابن عادل : لا نعرف فيه خلافاً .
سادسها : أنه منصوب على المفعول معه ، أي : مع الإيمان . قال وهب : سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال : إنّ المدينة تبوّئت بالإيمان والهجرة ، وإنّ غيرها من القرى افتتحت بالسيف ، ثم قرأ { والذين تبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم } أي : وهم الأنصار { يحبون } أي : على سبيل التجديد والاستمرار { من هاجر } وزادهم محبة فيهم بقوله تعالى : { إليهم } لأنّ القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه ، لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه { ولا يجدون في صدورهم } أي : التي هي مساكن قلوبهم فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم { حاجة } قال الحسن : حسداً وحزازة وغيظاً { مما أوتوا } أي : آتى النبيّ المهاجرين من أموال بني النضير وغيرهم ، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة لأنّ هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة ، فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية . فعلى هذا يكون الضمير الأوّل للجائين بعد المهاجرين ، وفي أوتوا للمهاجرين .
وقيل : إنّ الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه ، والمعنى : ولا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة ، تقول : خذ منه حاجته ، وأعطاه من ماله حاجته قاله الزمخشري : والضميران على ما تقدم ، وقال أبو البقاء : مس حاجة ، أي : أنه حذف المضاف للعلم به ، وعلى هذا فالضميران للذين تبوؤوا الدار والإيمان . قال القرطبي : كان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير دعا الأنصال وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم منازلهم وإشراكهم في الأموال ، ثم قال صلى الله عليه وسلم «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم » فقال سعد بن عبادة ، وسعد ابن معاذ : بل تقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا ، ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين ، أبا دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمة .
ولما أخبر تعالى عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الأخبار بتحليهم بالفضائل فقال عز من قائل : { ويؤثرون على أنفسهم } فيبذلون لغيرهم كائناً من كان ما في أيديهم ، فإنّ الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية ، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين ، وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة ، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل فإنّ النفس إذا طهرت كان القلب أطهر وأكد ذلك بقوله تعالى : { ولو كان } أي كونا هو في غاية المكنة { بهم } أي خاصة لا بالمؤثر { خصاصة } أي : فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به .
روي عن أبي هريرة أن رجلاً بات به ضيف ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك ، فنزلت هذه الآية . وعنه أيضاً قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضيف هذا الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال : لامرأته هل عندك شيء ؛ قالت : لا إلا قوت صبياني ، قال : فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج » وذكر نحو الحديث الأول .
وفي رواية فقام رجل من الأنصار يقال له : أبو طلحة فانطلق به إلى رحله . وذكر المهدوي أنها نزلت في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار يقال له : أبو المتوكل ، ولم يكن عنده إلا قوته .
وذكر القشيري قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة ، فقال : إنّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثها إليهم ، فلم يزل يبعث بها واحد إلى آخر حتى تناولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت الآية .
وذكر القرطبي عن أنس قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة ، وكان مجهوداً فوجه بها إلى جار له فتداولها سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عادت إلى الأوّل فنزلت .
فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء أجيب : بأن محل النهي فيمن لا يوثق منه بالصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ، فأما الأنصار الذين أثنى الله تعالى عليهم بالإيثار على أنفسهم فكانوا كما قال تعالى : { والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس } [ البقرة : 177 ] فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك ، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار . كما روي «أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب ، فقال : هذه صدقة فرماه بها ، وقال : يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس » والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس . ومن الأمثال : والجود بالنفس أعلى غاية الجود ، وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله لا يصيبونك نحري دون نحرك » ، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت . وقال حذيفة الدوري انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي فإذا برجل يقول : آه ، آه . فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاصي فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار هشام أن انطلق عليه فجئت إليه ، فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات .
وقال أبو يزيد البسطامي : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم إلينا حاجاً ، فقال لي : يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم ، فقلت : إذا وجدنا أكلنا ، وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا كلاب بلخ فقلت : وما حد الزهد عندكم ، فقال : إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا .
وسأل ذو النون ما حد الزهد قال : ثلاث : تفريق المجموع ، وترك تطلب المفقود ، والإيثار عند القوت . وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري ، وبينهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام ، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه { ومن يوق شح نفسه } أي : يجعل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس وقاية تحول بينه وبينها ، فلا يكون مانعاً لما عنده حريصاً على ما عند غيره حسداً . قال ابن عمر الشح : أن تطمح عين الرجل فيما ليس له ، قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم » .
وقال القرطبي : الشح والبخل سواء ، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل . وفي الصحاح : الشح البخل مع حرص ، والمراد بالشح في الآية الشح بالزكاة ، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة وما شاكل ذلك وليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك ، وإن أمسك عن نفسه ، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكر من الزكاة والطاعات فلم يوق شح نفسه .
روى الأموي عن ابن مسعود : أنّ رجلاً أتاه فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك قال سمعت الله يقول : ومن يوق شح نفسه ، وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً ، فقال ابن مسعود : ليس ذلك الذي ذكر الله تعالى ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً ، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل ، ففرق بين الشح والبخل . وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح بما في أيدي الناس ، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع ، وقال بعضهم : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له . وقال ابن جبير : الشح منع الزكاة ، وادخار الحرام وقال ابن عيينة : الشح الظلم . وقال الليث : ترك الفرائض ، وانتهاك المحارم . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان ، فذلك الشحيح وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه ، ولم يمنع شيئاً أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقاه الله تعالى شح نفسه .
وعن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «برئ من الشح من أدى الزكاة ، وأقرى الضيف ، وأعطى في النائبة » وعنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم «كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها وسوأتها » وقال ابن الهياج الأسدي : رأيت رجلاً في الطواف يدعو اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك ، فقلت له : فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ، ولم أزن ، ولم أقتل فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف . قال القرطبي : ونزل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم «اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماؤهم واستحلوا محارهم » وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لا يجتمع غبار في سبيل الله ، ودخان جهنم في جوف عبد أبداً » وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضرّ بابن آدم ؟ قالوا : الفقر ، فقال : الشح أضر من الفقر لأنّ الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً { فأولئك } أي : العالو المنزلة { هم المفلحون } أي : الكاملون في الفوز بكل مراد ، قال القشيري : ومجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر من أسرته الأخطار .