معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم } . أي ولا يحسبن الباخلون البخل خيراً لهم .

قوله تعالى : { بل هو } . يعني البخل .

قوله تعالى : { شر لهم سيطوقون } . أي سوف يطوقون .

قوله تعالى : { ما بخلوا به يوم القيامة } . يعني يجعل ما منعه من الزكاة حيةً تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه ، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا علي بن عبد الله المديني ، أنا هاشم بن قاسم ، أخبرنا عبد الرحمن بن دينار ، عن أبيه عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان ، يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ، يعني شدقيه ، ثم يقول :أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا ( ولا يحسبن الذين يبخلون ) الآية .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن حفص بن غياث ، أنا أبي أنا الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : انتهيت إليه ، يعني : النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، أو والذي لا إله غيره أو كما حلف ، ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه ، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جاوزت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس .

قال إبراهيم النخعي معنى الآية ، يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقا من النار ، قال مجاهد : يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم .

وروى عطية عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء : ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ) . ومعنى قوله " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ، أي يحملون وزره وإثمه ، كقوله تعالى ( يحملون أوزارهم على ظهورهم ) .

قوله تعالى : { ولله ميراث السماوات والأرض } . يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم ، نظيره قوله تعالى ( إنا نحن نرث الأرض ومن عليها ) .

قوله تعالى : { والله بما تعملون خبير } . قرأ أهل البصرة ومكة بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

عطف على { ولا يحسبن الذين كفروا } ، لأنّ الظاهر أنّ هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين ، فإنّهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، كما حكى الله عنهم في سورة النساء ( 37 ) بقوله : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } وكانوا يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضُّوا ، وغير ذلك ، ولا يجوز بحال أن يكون نازلاً في شأن بعض المسلمين لأنّ المسلمين يومئذ مبرّؤون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان ، ولذلك قال معظم المفسّرين : إنّ الآية نزلت في منع الزكاة ، أي فيمن منعوا الزكاة ، وهل يمنعها يومئذ إلاّ منافق . ولعلّ مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أنّ بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أُحُد . ومعنى حسبانه خيراً أنّهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصّلوا عن دفعه بمعاذير قُبلت منهم .

أمّا شمولها لِمنع الزكاة ، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس ، فبدلالة فحوى الخطاب .

وقرأ الجمهور : ولا يحسبنّ الذين يبخلون } بياء الغيبة ، وقرأه حمزة بتاء الخطاب كما تقدّم في نظيره . وقرأ الجمهور : تحسِبنّ بكسر السين ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم بفتح السين .

وقوله : { هو خيراً لهم } قال الزمخشري ( هو ) ضمير فصْل ، وقد يبنى كلامه على أنّ ضمير الفصل لا يختصّ بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسماً وخبراً ، ونقل الطيبي عن الزجاج أنّه قال : زعم سيبويه أنّه إنّما يكون فصلاً مع المبتدأ والخبر ، يعني فلا يصحّ أن يكون هُنا ضمير فصل ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين : أحدهما أن يكون ( هو ) ضميراً واقعاً موقع المفعول الأوّل على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب ، ولعلّ الذي حسنّه أنّ المعاد غير مذكور فلا يهتدي إليه بضمير النصب ، بخلاف ضمير الرفع لأنّه كالعمدة في الكلام ، وعلى كلّ تقدير فالضمير عائد على البخل المستفاد من { يبخلون } ، مثل { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، ومثل قوله :

إذَا نُهِي السفيهُ جَرى إليه *** وخَالف والسفيهُ إلى خلاف

ثم إذا كان ضمير فصل فأحد مفعولي حسب محذوف اختصاراً لدلالة ضمير الفصل عليه ، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حَلّ المضافُ إليه محلّه ، أي لا تحسبنّ الذين يبخلون خيراً وعلى قراءة التحتيّة : ولا يحسبنّ الذين يبخلون بُخلهم خيراً .

والبُخْل بضم الباء وسكون الخاء ويقال : بَخَل بفتحهما ، وفعلُه في لغة أهل الحجاز مضموم العين في الماضي والمضارع . وبقية العرب تجعله بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ، وبلغة غير أهل الحجاز جاء القرآن لِخفّة الكسرة والفتحة ولذا لم يقرأ إلاّ بها . وهو ضدّ الجود ، فهو الانقباض عن إعطاء المال بدون عوض ، هذا حقيقته ، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرّة عليه إلاَّ مجازاً ، وقد ورد في أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « البخيل الذي أُذكرُ عنده فلا يصلّي عليّ » ويقولون : بخِلت العين بالدموع ، ويرادف البخلَ الشحّ ، كما يرادف الجودَ السخاء والسماح .

وقوله : { بل هو شر لهم } تأكيد لنفي كونه خيراً ، كقول امرىء القيس : > وهذا كثير في كلام العرب ، على أنّ في هذا المقام إفادة نفي توهّم الواسطة بين الخير والشرّ .

وجملة { سيطوّقون } واقعة موقع العلّة لقوله : { بل هو شر لهم } .

ويطوّقون يحتمل أنه مشتقّ من الطاقة ، وهي تحمُّل ما فوق القدرة أي سيحملون ما بخلوا به ، أي يكون عليهم وزراً يوم القيامة ، والأظهر أنّه مشتقّ من الطَّوْق ، وهو ما يلبس تحت الرقبة فوق الصدر ، أي تجعل أموالهم أطواقاً يوم القيامة فيعذّبون بحملها ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم « من اغتصب شبراً من أرض طُوّقه من سبع أرضين يوم القيامة » والعرب يقولون في أمثالهم تقلّدها ( أي الفعلة الذميمة ) طوقَ الحمامة . وعلى كلا الاحتمالين فالمعنى أنّهم يشهَّرون بهذه المذمّة بين أهل المحشر ، ويلزمون عقاب ذلك . وقوله : { ولله ميراث السموات والأرض } تذييل لموعظة البَاخلين وغيرهم : بأنّ المال مال الله ، وما من بخيل إلاّ سيذهب ويترك ماله ، والمتصرّف في ذلك كلّه هو الله ، فهو يرث السماوات والأرض ، أي يستمرّ ملكه عليهما بعد زوال البشر كلّهم المنتفعين ببعض ذلك ، وهو يملك ما في ضمنهما تبعاً لهما ، وهو عليم بما يعمل الناس من بخل وصدقة ، فالآية موعظة ووعيد ووعد لأنّ المقصود لازم قوله : { خبير } .