الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } .

من قرأ بالياء جعل هو [ ابتداء ] وجعل الاسم مضمراً وجعل الخير خيراً بحسبان تقديره : ولا تحسبن الباخلون البخل خيراً لهم ، فاكتفا بذكر [ يبخلون ] من البخل كما تقول في الكلام : قد قدم زيد فسررت به ، وأنت تريد سررت بقدومه .

قال الشاعر :

إذا نهي السفيه جرى إليه *** وخالف والسفيه إلى خلاف

أي جرى إلى السفه ونظير هذا قوله :

{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] هو ابتداء والحق خبر كان ، وقوله :

{ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } [ سبأ : 6 ] .

ومن قرأ بالتاء فعلى التكرير والبدل ، كما ذكرنا في آية الاملاء ، قال الله تعالى : { بَلْ هُوَ } يعني البخل { شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .

قال المبرد : السين في قوله : { سَيُطَوَّقُونَ } سين الوعيد وتأويلها : سوف يطوقون ، واختلفوا في معنى الآية :

فقال قوم : معناها فجعل ما بخل به وما يمنعه من الزكاة حيّة تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه ، تقول : أنا مالك ، فلا يزال كذلك حتى يساق إلى النار ويغل ، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي [ وائِل ] وابن مالك وابن فرعة والشعبي والسدي ، ويدل عليه ما روى أبو وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلاّ جُعل له شجاع في عنقه يوم القيامة " ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق من كتاب الله تعالى { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .

وعن رجل من بني قيس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل الله إيّاه فيبخل به عنه إلاّ أخرج الله له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه " ثم تلا { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } الآية .

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من عبد يكون له مال فيمنعه من حقه ويضعه في غير حقه إلاّ مثله الله شجاعاً أقرع منتن الريح لا يمر بأحد إلاّ استعاذ منه حتى دنا من صاحبه ، فإذا دنا من صاحبه قال له أعوذ بالله منك ، قال : لمَ تستعيذ مني وأنا مالك الذي كنت تبخل به في الدنيا فيطوقه في عنقه فلا يزال في عنقه حتى يدخله الله جهنّم "

وتصديق ذلك في القرآن { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .

فقال إبراهيم النخعي : معناه يُجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقاً من نار .

مجاهد : يكلفون يوم القيامة أن يأتوا ممّا بخلوا به في الدنيا من أموالهم يوم القيامة .

المؤرّخ : يلزمون أعمالهم مثل ما يلزم الطوق بالعنق ، يقال : طوق فلان عمله مثل طوق الحمامة .

عن يسار بن سعد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مانع الزكاة يوم القيامة في النار " .

هشام بن عروة عن أبيه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تخالط الصدقة مالا إلاّ أهلكته " .

عن عكرمة عن جبير بن مهاجر عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" ما حبس قوم الزكاة إلاّ حبس الله عنهم القطر " .

وعن الحسن البصري قال : كان أعرابي صاحب ماشية ، وكان قليل الصدقة فتصدق بعريض من غنمه ، فرأى فيما يرى النائم كأنما وثبت عليه غنمه كلها فجعل العريض يحامي عنه ، فلما انتبه قال : والله لئن استطعت لأجعلن أتباعك كثيراً . قال : وكان بعد ذلك يقسم .

قال الثعلبي : أنشدنا أبو القاسم الحسين بن محمد قال : أنشدنا أبو بكر محمد بن عبد الله قال : أنشدنا العلائي قال : أنشدني المهدي بن سابق :

يا مانع المال كم تضمن به *** أتطمع بالله في الخلود معه

هل حمل المال ميت معه *** أما تراه لغيره جمعه

ابن سعيد عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، وأراد بالبخل كتمان العلم الذي أتاهم الله ، يدل عليه قوله تعالى في سورة النساء :

{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ الآية : 37 ] الآية ،

ومعنى قوله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } أي يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى :

{ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ } [ الأنعام : 31 ] ، { وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم ، نظيره قوله :

{ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } [ مريم : 40 ] .

{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالياء ، الباقون : بالتاء .