الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

قوله : ( وَلاَ يَحْسِبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ) الآية [ 180 ] .

من قرأ بالياء فالذين فاعلون( {[11328]} ) ، والمفعول الأول محذوف دل عليه يبخلون و " خبراً " مفعول ثان ، والتقدير ولا يحسبن( {[11329]} ) الباخلون [ البخل ] ( {[11330]} ) هو خير لهم ، وهو فاصلة( {[11331]} ) عند البصريين( {[11332]} ) ، وعماد عند الكوفيين( {[11333]} ) ، ودل يبخلون على البخل ، لأنه منه أخذ .

ومن قرأ بالتاء ففي الكلام حذف مضاف دل عليه ما يتصل بالمضاف إليه ، تقديره ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم ، فخيراً( {[11334]} ) مفعول ثان ، وبخل مفعول أول( {[11335]} ) ، ومعنى الآية : ولا يحسبن الباخلون ولا ينفقون في سبيل الله : البخل خيراً لهم بل هو شر لهم في الآخرة .

[ ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى : ولا تحسبن يا محمد بخل الباخلين عن الإنفاق في سبيل الله خيراً لهم بل هو شر لهم في الآخرة ]( {[11336]} ) .

وقيل( {[11337]} ) : عنى بذلك الزكاة وهو إخبار( {[11338]} ) عمن( {[11339]} ) لم يؤد الزكاة . وقيل : إخبار عن اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما نزل عليهم من التوراة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما( {[11340]} ) .

( سَيُطَوَّفُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ) أي : سيجعل ما بخل به المانعون الزكاة طوقاً من نار في أعناقهم يوم القيامة أي : كهيأة الطير ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من ذي رحم يأتي [ ذا ] رحمه( {[11341]} ) فيسأله من فضل ما أعطاه الله إياه ، فيبخل عليه إلا أُخرج [ له ] يوم( {[11342]} ) القيامة شجاع من النار( {[11343]} ) يتلبط( {[11344]} ) حتى يطوقه " وقرأ ( وَلاَ يَحْسِبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ) الآية( {[11345]} ) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثّل له شجاع أقرع يطوقه " ثم قرأ ( وَلاَ يَحْسِبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ ) الآية( {[11346]} ) . قال الشعبي : ( سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ) قال : شجاع يلتوي على عنقه .

وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له ماله يوم القيامة شجاعاً( {[11347]} ) أقرع( {[11348]} ) له زبيبتان( {[11349]} ) يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه –يعني شدقيه- يقول له : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية ( وَلاَ يَحْسِبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ )( {[11350]} ) .

وقيل( {[11351]} ) : يجعل الذي بخلوا به طوقاً من نار في أعناقهم .

وقال أبو وائل( {[11352]} ) : هو الرجل يرزقه الله مالاً فيمنع منه قرابته( {[11353]} ) الحق الذي جعل الله لهم في ماله ، فيُجعل حية يطوقها ، فيقول : ما لي ولك ؟ فيقول : أنا مالك( {[11354]} ) .

وقال مجاهد : ( سَيُطَوَّقُونَ ) سيكلفون أن يأتوا يوم القيامة بمثل الذي بخلوا به( {[11355]} ) . وقيل : المعنى سيطوقون جزاء ما بخلوا به وعقاب ما بخلوا به( {[11356]} ) .

والتطوق : إلزام الله تعالى لهم ذلك ، ومنعهم من التخلص منه . وقيل : المعنى سيكلفون يوم القيامة إحضار الأموال التي بخلوا بها ، وهم لذلك غير مستطيعين ، قاله ابن مجاهد وغيره( {[11357]} ) . وقيل : المعنى : سيطوق اليهود ثم الذين بخلوا [ به ]( {[11358]} ) ، هو صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، والنبوة فيه كتموا ذلك ، وهو عندهم في كتابهم( {[11359]} ) . ( {[11360]} )

قوله ( وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضِ ) أعلم الله الخلق في هذه الآية أنهم سيفنون كلهم ، فصار ما بقي بعدهم بمنزلة الميراث الذي يبقى بعد الميت فسماه ميراثاً على ذلك ، وإلا فكل شيء له ، أولاً وآخراً ، ولكن سماه هنا ميراثاً إعلاماً( {[11361]} ) منه أنهم سيفنون ، وأن الأمور كلها ترجع إليه ، والعرب تسمي كل ما بقي في يد الإنسان ، فصار إلى غيره بعد موته : ميراثاً ، فخوطبوا على ما يعقلون ولذلك قال ( وهو( {[11362]} ) خير الوارثين ) .


[11328]:- كذا في جميع النسخ ولعلها فاعل.
[11329]:- (ج): ولا تحسب.
[11330]:- ساقط من (ج).
[11331]:- (د): فاعلة.
[11332]:- انظر: معاني الفراء 1/248 ومعاني الأخفش 1/423.
[11333]:- انظر: معاني الزجاج 1/492، وإعراب النحاس 1/380-381.
[11334]:- (ب) (د): فخير.
[11335]:- (أ): الأول.
[11336]:- ساقط من (أ) (ج).
[11337]:- عزاه الطبري للسدي في جامع البيان 4/190.
[11338]:- (ج): اختيار.
[11339]:- (ب) و(د): عن من.
[11340]:- انظر: جامع البيان 4/190.
[11341]:- (ب) (د): يأتي ذا رحمه.
[11342]:- ساقط من (أ) (ج).
[11343]:- (أ): من نار.
[11344]:- كذا في كل النسخ وهو تحريف لكلمة يتلمظ. يقال: تلمظت الحية إذا أخرجت لسانها كتلمظ الآكل. انظر: اللسان لمظ 7/461 وأما تلبط فهو بمعنى اضطجع وتمرغ. انظر: اللسان لبط 7/388.
[11345]:- أخرجه الطبراني في الكبير 2/366، وانظر: تفسير ابن كثير 1/433.
[11346]:- أخرجه البخاري في كتاب التفسير 5/172، وابن ماجه في كتاب الزكاة (1784) 1/568 والبغوي في شرح السنة 5/490 [قال المدقق: ورواه أحمد (3577) والترمذي 4/85 والنسائي 1/333-334.
[11347]:- شجاع: الحية الذكر أو الذي يقوم على ذنبه ويواثب الراجل والفارس، انظر: اللسان شجع 8/174.
[11348]:- الأقرع: هو الذي تمرط جلد رأسه لكثرة سمه وطول عمره، انظر: اللسان قرع 8/263.
[11349]:- الزبيبتان النكتتان السوداوان فوق عينيه وهو أوحش وأخبث ما يكون من الحيات. انظر: اللسان (زبب) 1/445.
[11350]:- أخرجه الحميدي في مسنده 1/52 والبخاري في كتاب التفسير 5/172.
[11351]:- هو اختيار الطبري وقد احتج له بمثل ما ساق مكي من أحاديث، انظر: جامع البيان 4/191-192.
[11352]:- هو أبو وائل شقيق ابن سلمة الأسدي توفي 82 هـ أدرك ولم ير ولم يسمع وهو صاحب ابن مسعود روى عنه. انظر: أسد الغابة 2/275. وتاريخ بغداد 9/268، وطبقات الحفاظ 28.
[11353]:- فيمنع قرابة الحق، فمنه زائدة (أ)، انظر: جامع البيان 192.
[11354]:- انظر: جامع البيان 4/191 والدر المنثور 2/395.
[11355]:- تفسير مجاهد 1/140.
[11356]:- انظر: جامع البيان 4/191-192.
[11357]:- كذا في كل النسخ وهو خطأ وصوابه مجاهد وهذا القول تكرار.
[11358]:- ساقط من (أ) (ج).
[11359]:- (أ): كتابه.
[11360]:- عزاه الطبري لابن عباس في جامع البيان 4/193.
[11361]:- (ج): إعاماً.
[11362]:- كذا في كل النسخ وما في المصحف (وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ) الأنبياء آية 89.