البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

{ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم } قال السدي وجماعة : نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله .

وقال ابن عباس في رواية عطية ، ومجاهد وابن جريج وجماعة ، واختاره الزجاج : في أهل الكتاب وبخلهم وتبيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : نزلت في مانعي الزكاة المفروضة قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية أبي صالح والشعبي ومجاهد .

وقيل : في النفقة على العيال وذوي الأرحام .

ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة ، شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره ، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ، والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب .

وقرأ حمزة تحسبن بالتاء ، فتكون الذين أول مفعولين لتحسبن ، وهو على حذف مضاف أي : بخل الذين .

وقرأ باقي السبعة بالياء .

فإنْ كان الفعل مسنداً إلى ضمير الرسول أو ضمير أحد ، فيكون الذين هو المفعول الأول على ذلك التقدير وإن كان الذين هو الفاعل ، فيكون المفعول الأول محذوفاً تقديره : بخلهم ، وحذف لدلالة يبخلون عليه .

وحذفه كما قلنا : عزيز جداً عند الجمهور ، فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف ، وهو فصل .

وقرأ الأعمش بإسقاط هو ، وخيراً هو المفعول بتحسبن .

قال ابن عطية : ودل قوله : يبخلون على هذا البخل المقدر ، كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر :

إذا نهى السفيه جرى إليه *** وخالف والسفيه إلى خلاف

والمعنى : جرى إلى السفه انتهى .

وليست الدلالة فيهما سواء لوجهين : أحدهما أن الدال في الآية هو الفعل ، وفي البيت هو اسم الفاعل ، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل ، ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه في القرآن وكلام العرب ، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إنْ وجد .

والثاني أن في الآية حذفاً لظاهر ، إذ قدروا المحذوف بخلهم ، وأما في البيت فهو إضمار ، لا حذف .

ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية ، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسنداً للذين ، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين ، ويبخلون يطلب مفعولاً بحرف جر ، فقوله : ما آتاهم يطلبه يحسبن ، على أن يكون المفعول الأول ، ويكون هو فصلاً ، وخيراً المفعول الثاني ويطلبه يبخلون بتوسط حرف الجر ، فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون .

فعدي بحرف الجر واحد معموله ، وحذف معمول تحسبن الأول ، وبقي معموله الثاني ، لأنه لم يتنازع فيه ، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول .

وساغ حذفه وحده ، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو قلت : زيد منطلق ، لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد منطلق ، وفي الآية : لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد ، وتقدير المعنى : ولا تحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به ، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلاً لما آتاهم المحذوف ، لا لتقديرهم بخلهم .

ونظير هذا التركيب ظن الذي مرّ بهند هي المنطلقة المعنى ، ظن هنداً الشخص الذي مرّ بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو الاسم الأول ، فاعمل الفعل الثاني وبقي الأول يطلب محذوفاً ، ويطلب المفعول الثاني مثبتاً ، إذ لم يقع فيه التنازع .

ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيراً لهم ، وكان تحت الانتفاء قسمان : أحدهما أن لا خير ولا شر ، والآخر إثبات الشر ، أتى بالجملة التي تعين أحد القسمين وهو : إثبات كونه شراً لهم .

{ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } هذا تفسير لقوله : { بل هو شر لهم } والظاهر حمله على المجاز ، أي سيلزمون عقابه إلزام الطوق ، وفي المثل لمن جاء بهنة تقلدها طوق الحمامة .

وقال إبراهيم النخعي : سيُجعل لهم يوم القيامة طوق من نار .

قال مجاهد وغيره : هو من الطاقة لا من التطويق ، والمعنى : سيحملون عقاب ما بخلوا به .

كقوله : { وعلى الذين يطوقونه } وقال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به .

وهذا التفسير لا يناسب قوله : إن البخل هو العلم الذي تفضل الله عليهم به من أمر الرسول .

وقال أبو وائل : هو الرجل يرزقه الله مالاً فيمنع منه قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية يطوقها فيقول : ما لي ولك ، فيقول : أنا مالك .

وجاء في الحديث : « ما من ذي رحم يأتي ذا رحمة فيسأله من فضل عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه » والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة .

{ ولله ميراث السموات والأرض } فيه قولان : أحدهما أنه تعالى له ملك جميع ما يقع من إرث في السموات والأرض ، وأنه هو المالك له حقيقة ، فكل ما يحصل لمخلوقاته مما ينسب إليهم ملكه هو مالكه حقيقة .

وهذا كان هو مالكه فما لكم تبخلون بشيء أنتم ممتعون به لا مالكوه حقيقة ، كما قال تعالى : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } والقول الثاني : أنه خبر بفناء العالم ، وأنَّ جميع ما يخلقونه فهو وارثه .

وهو خطاب على ما يفهم البشر ، دلّ على فناء الجميع ، وأنه لا يبقى مالك إلا الله ، وإن كان ملكه على كل شيء لم يزل .

{ والله بما تعملون خبير } ختم بهذه الصفة ومعناها التهديد والوعيد على قبيح مرتكبهم من البخل .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : يعملون على الغيبة جرياً على يبخلون وسيطوّقون .

وقرأ الباقون : بالتاء على الالتفات ، فيكون ذلك خطاباً للباخلين .

وقال ابن عطية : وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة ، لأنه قد تقدّم { وإن تؤمنوا وتتقوا } . انتهى .

فلا يكون على قوله التفاتاً ، والأحسن الالتفات .

/خ180