مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير } .

اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع ههنا في التحريض على بذل المال في الجهاد ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة { ولا تحسبن } بالتاء والباقون بالياء ، أما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فقال الزجاج : معناه ولا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم ، فحذف المضاف لدلالة يبخلون عليه ، وأما من قرأ بالياء المنقطة من تحت ففيه وجهان : الأول : أن يكون فاعل { يحسبن } ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ضمير أحد ، والتقدير : ولا يحسبن رسول الله أو لا يحسبن أحد بخل الذين يبخلون خيرا لهم . الثاني : أن يكون فاعل { يحسبن } هم الذين يبخلون ، وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا ، وتقديره : ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيرا لهم ، وإنما جاز حذفه لدلالة يبخلون عليه ، كقوله : من كذب كان شرا له ، أي الكذب ، ومثله :

إذا نهى السفيه جرى إليه *** . . .

أي السفه ، وأنشد الفراء :

هم الملوك وأبناء الملوك هم *** والآخذون به والسادة الأول

فقوله به : يريد بالملك ولكنه اكتفى عنه بذكر الملوك .

المسألة الثانية : هو في قوله : { هو خيرا لهم } تسميه البصريون فصلا ، والكوفيون عمادا ، وذلك لأنه لما ذكر «يبخلون » فهو بمنزلة ما إذا ذكر البخل ، فكأنه قيل : ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم ، وتحقيق القول فيه أن للمبتدأ حقيقة ، وللخبر حقيقة ، وكون حقيقة المبتدأ موصوفا بحقيقة الخبر أمر زائد على حقيقة المبتدأ وحقيقة الخبر ، فإذا كانت هذه الموصوفية أمرا زائدا على الذاتين فلا بد من صيغة ثالثة دالة على هذه الموصوفية وهي كلمة «هو » .

المسألة الثالثة : اعلم أن الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع ، وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا ، وأن يكون علما .

فالقول الأول : أن هذا الوعيد ورد على البخل بالمال ، والمعنى : لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم ، بل هو شر لهم ، وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم ، وهو المراد من قوله : { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله : { ولله ميراث السماوات والأرض } .

والقول الثاني : أن المراد من هذا البخل : البخل بالعلم ، وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ، فكان ذلك الكتمان بخلا ، يقال فلان يبخل بعلمه ، ولا شك أن العلم فضل من الله تعالى قال الله تعالى : { وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } ثم إنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والإنجيل ، فإذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك بخلا .

واعلم أن القول الأول أولى ، ويدل عليه وجهان : الأول : أنه تعالى قال : { سيطوقون ما بخلوا به } ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا إلى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية ، ولو فسرناها بالمال لم نحتج إلى المجاز فكان هذا أولى . الثاني : أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن ، ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم ، إلا على سبيل التكلف ، فكان الأول أولى .

المسألة الرابعة : أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب ، وان منع التطوع لا يكون بخلا ، واحتجوا عليه بوجوه : أحدها : أن الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل ، والوعيد لا يليق إلا الواجب . وثانيها : أنه تعالى ذم البخل وعابه ، ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به . وثالثها : وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل ، وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه ، فيكون لا محالة تاركا التفضل ، فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة ، تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا . ورابعها : قال عليه الصلاة والسلام : " وأي داء أدوأ من البخل " ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف . وخامسها : أنه كان لو تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا بإخراج الكل . وسادسها : أنه تعالى قال : { ومما رزقناهم ينفقون } وكلمة «من » للتبعيض ، فكان المراد من هذه الآية : الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله ، ثم إنه تعالى قال في صفتهم : { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } فوصفهم بالهدى والفلاح ، ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك . فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب ، إلا أن الإنفاق الواجب أقسام كثيرة ، منها إنفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم ، ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة ، ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم ، فههنا يجب عليهم إنفاق الأموال على من يدفعه عنهم ، لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس ، ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فإنه يجب عليه أن يدفع إليه مقدار ما يستبقي به رمقه ، فكل هذه الاتفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل ، والله أعلم .

ثم قال تعالى : { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تفسير هذا الوعيد وجوه : الأول : أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم . قيل : إنه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالأطواق تلتوي في أعناقهم ، ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم ، فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها ، وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى جهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم ، فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم . ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم ، ونظيره قوله تعالى :

{ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } وعن ابن عباس رضي الله عنهما : تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول : أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي .

القول الثاني : في تفسير قوله : { سيطوقون } قال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ { وعلى الذين يطيقونه فدية } قال المفسرون : يكلفونه ولا يطيقونه ، فكذا قوله : { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الإتيان به ، فيكون ذلك توبيخا على معنى : هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا .

والقول الثالث : أن قوله : { سيطوقون ما بخلوا به } أي سيلزمون إثمه في الآخرة ، وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا ، يقال منه : فلان كالطوق في رقبة فلان ، والعرب يعبرون عن تأكيد إلزام الشيء بتصييره في العنق ، ومنه يقال : قلدتك هذا الأمر ، وجعلت هذا الأمر في عنقك قال تعالى : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } .

القول الرابع : إذا فسرنا هذا البخل بالبخل بالعلم كان معنى { سيطوقون } أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار ، قال عليه الصلاة والسلام : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة » والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق .

واعلم أن تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم غير بعيد ، وذلك لأن اليهود والنصارى موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به . قال تعالى في صفتهم : { أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } وقال أيضا فيهم : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } وذلك من أقوال اليهود ، ولا يبعد أيضا أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم ، وفي البخل بالمال ، ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا .

المسألة الثانية : قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على القطع بوعيد الفساق ، وذلك لأن من يلزمه هذه الحقوق ولا تسقط عنه هو المصدق بالرسول وبالشريعة ، أما قوله : { بل هو شر لهم } فلأنه يؤدي إلى حرمان الثواب وحصول النار ، وأما قوله : { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } فهو صريح بالوعيد .

واعلم أن الكلام في هذه المسألة تقدم في سورة البقرة .

ثم قال تعالى : { ولله ميراث السماوات والأرض } وفيه وجهان : الأول : وله ما فيها مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره . فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ، ونظيره قوله تعالى : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } والثاني : وهو قول الأكثرين : المراد أنه يفنى أهل السماوات والأرض وتبقى الأملاك ولا مالك لها إلا الله ، فجرى هذا مجرى الوراثة إذ كان الخلق يدعون الأملاك ، فلما ماتوا عنها ولم يخلفوا أحدا كان هو الوارث لها ، والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جمع المالكين إلا ملك الله سبحانه وتعالى ، فيصير كالميراث . قال ابن الأنباري : يقال : ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركا فيه ، وقال تعالى : { وورث سليمان داوود } وكان المعنى انفراده بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه وغالبا عليه .

ثم قال تعالى : { والله بما تعملون خبير } قرأ ابن كثير وأبو عمرو { بما يعملون } بالياء على المغايبة كناية عن الذين يبخلون ، والمعنى والله بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه ، والباقون قرؤا بالتاء على الخطاب ، وذلك لأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله : { وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } والله بما تعملون خبير فيجازيكم عليه ، والغيبة أقرب إليه من الخطاب قال صاحب الكشاف : الياء على طريقة الالتفات ، وهي أبلغ في الوعيد .