الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

قوله سبحانه : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهم الله مِن فَضْلِهِ }

قال السُّدِّيُّ وجماعةٌ من المتأوِّلين : الآية نزلَتْ في البُخْل بالمال ، والإنفاقِ في سبيل اللَّه ، وأداء الزكاة المفْرُوضَة ، وَنحْو ذلك ، قال : ومعنى : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } هو الذي ورد في الحديثِ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمِهِ ، فَيَسْأَلَهُ مِنْ فَضْلٍ عِنْدَهُ ، فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ إلاَّ أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعٌ مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ ، حتى يُطَوَّقَه ) .

قُلْتُ : وفي البخاريِّ وغيره ، عنه صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً ، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ ، مُثِّلَ لَهُ شُجَاعاً أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَأْخُذُ بلَهْزَمَتَيْهِ ، يَعْنِي : شِدْقَيهِ ، يَقُولُ : أَنَا مَالُكَ ، أَنَا كَنْزُكَ ) ثُمَّ تَلاَ هذه الآيةَ : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهم الله مِن فَضْلِهِ . . . } الآية .

قلْتُ : واعلم أنه قد وردَتْ آثار صحيحةٌ بتعذيبِ العُصَاة بنَوْعٍ مَا عَصَوْا به ، كحديث : " مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَهُوَ يَجَأُ نَفْسَهُ بِحَدِيدَتِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَالَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسُّمِّ ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ " ، ونحو ذلك .

قال الغَزَّالِيُّ . في «الجَوَاهِرِ » : واعلم أنَّ المعانِيَ في عالم الآخرة تستتبعُ الصُّور ، ولا تَتْبَعُها ، فيتمثَّل كلُّ شيء بصورة تُوَازِي معناه ، فيُحْشَرُ المتكبِّرون في صُوَرِ الذَّرِّ يَطَأهُمْ مَنْ أَقْبَل وأَدْبَر ، والمتواضِعُون أعزَّاء . انتهى . وهو كلام صحيحٌ يشهد له صحيحُ الآثارِ ، ويؤيِّده النظَرُ والاعتبار ، اللَّهم ، وفِّقنا لما تحبُّه وترضاه .

قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه » : قال عُلَماؤنا : البُخْل : مَنْعُ الواجبِ ، والشُّحُّ : منع المستحَبِّ ، والصحيحُ المختارُ أنَّ هذه الآيةَ في الزكاة الواجبَة ، لأنَّ هذا وعيدٌ لمانعيها ، والوعيدُ إذا اقترن بالفعْلِ المأمورِ به ، أو المنهيِّ عنه ، اقتضى الوجوبَ ، أو التحريمَ . انتهى . وتعميمها في جميع أنْواع الواجب أحْسَنُ .

وقوله سبحانه : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض } خطابٌ على ما يفهمه البشر ، دَالٌّ على فناء الجميعِ ، وأنه لا يبقى مَالِكٌ إلاَّ اللَّه سبحانه .