غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

176

ثم إنه عز من قائل لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد ، حرض على بذل المال في سبيل الله فقال : { ولا تحسبن الذين يبخلون } من قرأ بتاء الخطاب قدر مضافاً أي لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم ، وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعله ضمير النبي أو أحد . ومن جعل الموصول فاعلاً فالمفعول الأول محذوف للدلالة . التقدير : ولا تحسبن هؤلاء بخلهم هو خيراً وهو صيغة الفصل . قال الواحدي : جمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مانعي الزكاة لترتب الوعيد عليه وسوق الكلام في معرض الذم ، ولأن تارك التفضل لو عدّ بخيلاً لم يتخلص الإنسان من البخل إلا بإخراج جميع المال . وفي حكم الزكاة سائر المصارف الواجبة كالإنفاق على النفس وعلى الأقربين الذين يلزمه مؤنتهم ، وعلى المضطر ، وفي الذب عن المسلمين إذا قصدهم عدوّ وتعين دفعهم بالمال . وروى عطية عن ابن عباس أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته . وأراد بالبخل كتمان العلم الذي آتاهم الله ، وعلى هذا يكون عوداً إلى ما انجرّ منه الكلام إلى قصة أحد ، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب ويعضده أن كثيراً من آيات بقية السورة فيهم . وعلى هذا التفسير فمعنى { سيطوّقون } أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقاً من النار كقوله صلى الله عليه وسلم : " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار " والسر فيه أنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق . وعلى التفسير الأول فإما أن يكون محمولاً على ظاهره وهو أن يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوّقها في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه ويقول : أنا مالك .

عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل طوقاً في عنقه شجاعاً أقرع يفر منه وهو يتبعه " . ثم قرأ مصداقه من كتاب الله عز وجل { ولا تحبسن الذين يبخلون } الآية . وعن ابن عمر قال : قال صلى الله عليه وسلم : " إن الذين لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان فيلزمه أي يطوّقه يقول : أن كنزك " وأما أن يكون على طريق التمثيل لا على أن ثمة أطواقاً أي سيلزمون إثمه في الآخرة إلزام الطوق . وفي أمثالهم " يقلدها طوق الحمامة " . إذا جاء بهنة يسب بها ويذم . وقال مجاهد : معناه سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة . ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ { وعلى الذين يطوّقونه فدية }[ البقرة :184 ] قال المفسرون : يكلفونه ولا يطيقونه أي يؤمرون بأداء ما منعوه حتى لا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخاً على معنى هلا فعلتم ذلك حين كان ممكناً ؟ { ولله ميراث السماوات والأرض } وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره . فمالهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ؟ ونظيره قوله :{ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه }[ الحديد :7 ] وقال كثير من المفسرين : المقصود أنه يبطل ملك جميع المالكين إلا ملك الله فيصير كالميراث . قال ابن الأنباري : يقال ورث فلان علم فلان إذا تفرد به بعد أن كان مشاركاً له فيه . ومثله { وورث سليمان داود }[ النمل :16 ] أي انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركاً له فيه أو غالباً عليه { والله بما تعملون خبير } من قرأ على الغيبة فظاهر ، أي يجازيهم على منعهم الحقوق . ومن قرأ على الخطاب فللالتفات وهي أبلغ في الوعيد لأن الغضب كأنه تناهى إلى حد أقبل على الخطاب وشافه بالعتاب .

/خ189