فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

( ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم ) أي لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم ، قاله الخليل وسيبويه والفراء وقرئ بالتاء أي لا تحسبن يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخل الذين يبخلون خيرا لهم ، قال الزجاج هو مثل ( واسأل القرية ) الآية دالة على ذم البخل ، وقد ورد فيه أحاديث .

قال المبرد : والسين في قوله ( سيطوقون ما بخلوا به ) سين الوعيد ، وهذه الجملة مبينة لمعنى ما قبلها قيل ومعنى التطويق هنا أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقا من نار في أعناقهم ، وقيل معناه أنهم سيحملون عقاب ما بخلوا به ، فهو من الطاقة وليس من التطويق .

وقيل المعنى أنهم يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق ، يقال طوق فلان عمله طوق الحمامة أي ألزم جزاء عمله .

قال القرطبي : البخل في أصل اللغة ان يمنع الإنسان الحق الواجب ، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل ، قال في القاموس البخل ضد الكرم .

وقد ذكر الشوكاني في شرحه للمنتقى عند قوله صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من البخل انه قيده بعضهم بما يجب إخراجه ، ثم قال : ولا وجه له لأن البخل بما ليس بواجب من غرائز النقص المضادة للكمال ، والتعوذ منه حسن بلا شك ، فالأولى تبقية الحديث على عمومه انتهى ، فمعنى البخل عام لا كما ذكره القرطبي .

وأما في الآية فهو للواجب ولكن عبارته تفيد التعميم والله أعلم ، قال ابن عباس :هم أهل الكتاب بخلوا به أن يبثوه للناس ، وعن مجاهد قال : هم اليهود ، وعن السدي : قال بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ولم يؤدوا زكاتها .

( يوم القيامة ) بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما أخرج البخاري عن أبي هريرة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه فيقول أنا مالك أنا كنزك " ثم تلا هذه الآية ، وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها{[390]} .

( ولله ميراث السموات والأرض ) أي له وحده لا لغيره كما يفيده التقديم والمعنى ان له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما ومنه المال ، فما بالهم يبخلون بذلك ولا ينفقونه وهو لله سبحانه لا لهم . وإنما كان عندهم عارية مستردة .

ومثل هذه الآية قوله تعالى ( إنا نحن نرث الأرض ومن عليها ) وقوله ( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) والميراث في الأصل هو ما يخرج من مالك إلى آخر ، ولم يكن مملوكا لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث ، ومعلوم ان الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته ( والله بما تعملون خبير ) قرئ بالتاء على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد ، وقرئ بالياء على الظاهر .


[390]:أخرجه أحمد في "المسند"رقم 3577، والترمذي، وابن خزيمة، وابن ماجة ج/1/567، ولفظه: "ما من أحد يؤدي زكاة ماله، إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع حتى يطوق عنقه"، ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله: (ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ) الآية. وقال الترمذي: حسن صحيح. وروى البخاري ج/8/273، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه –يعني شدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية (ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) الى آخر الآية. الشجاع: الحية الذكر، وهو ضرب من الحيات، خبيث مارد.وأقرع:صفة من صفات الحيات الخبيثة، يزعمون أنه اذا طال عمر الحية، وكثر سمه، جمعه في رأسه حتى تتمعط منه فروة رأسه.