فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لهُمْ } الموصول في محل رفع على أنه فاعل الفعل على قراءة من قرأ بالياء التحتية ، والمفعول الأول محذوف ، أي : لا يحسبنّ الباخلون البخل خيراً لهم . قاله الخليل ، وسيبويه ، والفراء ، قالوا : وإنما حذف لدلالة يبخلون عليه ، ومن ذلك قول الشاعر :

إذا نُهِى السَفِيه جَرَى إليه *** وخالَفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ

أي : جرى إلى السفه ، فالسّفيه دلّ على السَّفه . وأما على قراءة من قرأ بالفوقية ، فالفعل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمفعول الأول محذوف ، أي : لا تحسبنّ يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم . قال الزجاج : هو : مثل { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] والضمير المذكور هو ضمير الفصل . قال المبرد : والسين في قوله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ } سين الوعيد ، وهذه الجملة مبينة لمعنى قوله : { بَلْ هُوَ شَرٌّ لهُمْ } قيل : ومعنى التطويق هنا أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقاً من نار في أعناقهم . وقيل معناه : أنه سيحملون عقاب ما بخلوا به ، فهو من الطاقة ، وليس من التطويق ، وقيل المعنى : أنهم يلزمون أعمالهم ، كما يلزم الطوق العنق ، يقال : طوق فلان عمله طوق الحمامة : أي : ألزم جزاء عمله ، وقيل : إن ما لم تؤدّ زكاته من المال يمثل له شجاعاً أقرع حتى يطوّق به في عنقه ، كما ورد ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال القرطبي : والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب ، فأما من منع ما لا يجب عليه ، فليس ببخيل . قوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } أي : له وحده لا لغيره ، كما يفيده التقديم . والمعنى : أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلها ، فما بالهم يبخلون بذلك ، ولا ينفقونه ، وهو لله سبحانه لا لهم ، وإنما كان عندهم عارية مستردة ! ومثل هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا } [ مريم : 40 ] وقوله : { وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مسْتَخْلَفِينَ فِيهِ }

[ الحديد : 7 ] والميراث في الأصل : هو ما يخرج من مالك إلى آخر ، ولم يكن مملوكاً لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث ، ومعلوم أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته .

/خ180