معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ أَوَلَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (57)

قوله تعالى : { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } أرض مكة ، نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، وذلك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لنعلم أن الذي تقول حق ، ولكنا إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة . وهو معنى قوله : { نتخطف من أرضنا } والاختطاف : الانتزاع بسرعة . قال الله تعالى : { أولم نمكن لهم حرما آمنا } وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تغير بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضاً ، وأهل مكة آمنون حيث كانوا ، لحرمة الحرم ، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة ، { يجبى } قرأ أهل المدينة ويعقوب : تجبى بالتاء لأجل الثمرات ، والآخرون بالياء للحائل بين الاسم المؤنث والفعل ، أي : يجلب ويجمع ، { إليه } يقال : جبيت الماء في الحوض أي : جمعته ، قال مقاتل : يحمل إلى الحرم ، { ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن ما يقوله حق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ أَوَلَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (57)

والضمير في قوله { وقالوا } لقريش ، قال ابن عباس والمتكلم بذلك فيهم الحارث بن نوفل وقصد الإخبار بأن العرب تنكر عليهم رفض الأوثان وفراق حكم الجاهلية فتخطفهم من أرضهم ، وقوله و { الهدى } معناه على زعمك ، وحكى الثعلبي أنه قال له إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك تخطفنا العرب فقطعهم الله تعالى بالحجة ، أي أليس كون الحرم لكم مما يسرناه وكففنا عنكم الأيدي فيه فكيف بكم لو أسلمتم واتبعتم ديني وشرعي ، وروي عن أبي عمرو «نتخطفُ » بضم الفاء ، و «أمن الحرم » هو أن لا يغزى ولا يؤذى فيه أحد ، وقوله تعالى { يجبى إليه ثمرات كل شيء } أي تجمع وتجلب ، وقرأ نافع وحده «تجبى » بالتاء من فوق ، وقرأ الباقون «يجبى » بياء من تحت ، ورويت التاء من فوق عن أبي عمرو وأبي جعفر وشيبة بن ناصح ، وقوله تعالى : { كل شيء } ، يريد مما به صلاح حالهم وقوام أمرهم ، وليس العموم فيه على الإطلاق ، وقرأ أبان بن تغلب «ثُمُرات » بضم الثاء والميم ، ثم توعد تعالى قريشاً بضرب المثل بالقرى المهلكة ، أي فلا تغتروا بالحرم والأمن والثمرات التي تجبى ، فإن الله تعالى يهلك الكفرة على ما سلف في الأمم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ أَوَلَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (57)

هذه بعض معاذيرهم قالها فريق منهم ممن غلبه الحياء على أن يكابر ويجاهر بالتكذيب ، وغلبه إلف ما هو عليه من حال الكفر على الاعتراف بالحق ، فاعتذروا بهذه المعذرة ، فروي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وناساً من قريش جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحارث « إنا لنعلم أن قولك حق ولكنا نخاف إن اتبعنا الهدى معك ونؤمن بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا ولا طاقة لنا بهم وإنما نحن أكلة رأس » ( أي أن جمعنا يشبعه الرأس الواحد من الإبل وهذه الكلمة كناية عن القلة ) فهؤلاء اعترفوا في ظاهر الأمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الهدى .

والتخطف : مبالغة في الخطف ، وهو انتزاع شيء بسرعة ، وتقدم في قوله تعالى { تخافون أن يتخطفكم الناس } في سورة الأنفال ( 26 ) . والمراد : يأسرنا الأعداء معهم إلى ديارهم ، فرد الله عليهم بأن قريشاً مع قلتهم عدّاً وعدة أتاح الله لهم بلداً هو حرم آمن يكونون فيه آمنين من العدو على كثرة قبائل العرب واشتغالهم بالغارة على جيرتهم وجبى إليهم ثمرات كثيرة قروناً طويلة ، فلو اعتبروا لعلموا أن لهم منعة ربانية وأن الله الذي أمنهم في القرون الخالية يؤمنهم إن استجابوا لله ورسوله .

والتمكين : الجعل في مكان ، وتقدم في قوله تعالى { مكّنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم } في سورة الأنعام ( 6 ) ، وقوله في أول هذه السورة ( 6 ) { ونمكن لهم في الأرض } واستعمل هنا مجازاً في الإعداد والتيسير .

والجبي : الجمع والجلب ومنه جباية الخراج .

والاستفهام إنكار أن يكون الله لم يمكن لهم حرماً . ووجه الإنكار أنهم نزلوا منزلة من ينفي أن ذلك الحرم من تمكين الله فاستفهموا على هذا النفي استفهام إنكار .

وهذا الإنكار يقتضي توبيخاً على هذه الحالة التي نزلوا لأجلها منزلة من ينفي أن الله مكن لهم حرماً .

والواو عطفت جملة الاستفهام على جملة { وقالوا } . والتقدير : ونحن مكنا لهم حرماً .

و { كل شيء } عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي ، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم أو استعمل { كل } في معنى الكثرة .

و { رزقاً } حال من { ثمرات } وهو مصدر بمعنى المفعول .

ومعنى { من لدنا } من عندنا ، والعندية مجاز في التكريم والبركة ، أي رزقاً قدرناه لهم إكراماً فكأنه رزق خاص من مكان شديد الاختصاص بالله تعالى .

وقد حصل في خلال الرد لقولهم إدماج للامتنان عليهم بهذه النعمة ليحصل لهم وازعان عن الكفر بالمنعم : وازع إبطال معذرتهم عن الكفر ، ووازع التذكير بنعمة المكفور به .

وموقع الاستدراك في قوله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنه متعلق بالكلام المسوق مساق الرد على قولهم { إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } إذ التقدير : أن تلك نعمة ربانية ولكن أكثرهم لا علم لهم فلذلك لم يتفطنوا إلى كُنه هذه النعمة فحسبوا أن الإسلام مفضضٍ إلى اعتداء العرب عليهم ظنّاً بأن حرمتهم بين العرب مزيّة ونعمة أسداها إليهم قبائل العرب .

وفعل { لا يعلمون } منزَّل منزلة اللازم فلا يقدَّر له مفعول ، أي ليسوا ذوي علم ونظر بل هم جهلة لا يتدبّرون الأحوال . ونُفِي العلم عن أكثرهم لأن بعضهم أصحاب رأي فلو نظروا وتدبروا لما قالوا مقالتهم تلك .

ولو قدر لفعل { يعلمون } مفعول دل عليه الكلام ، أي لا يعلمون تمكين الحرم لهم وأن جلب الثمرات إليهم من فضلنا لما استقام إسناد نفي العلم إلى أكثرهم بل كان يسند إلى جميعهم لإطباق كلمتهم على مقالة { إن نتبع الهُدى معك نُتَخطَّف من أرضنا } .

وقرأ نافع وأبو جعفر ورويس عن يعقوب { تُجْبَى } بالمثناة الفوقية . وقرأ الباقون بالياء التحتية مراعاة للمضاف إليه وهو { كل شيء } فأكسب المضاف تأنيثاً .