التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَقَالُوٓاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ أَوَلَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (57)

{ وقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَولَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 57 } [ 57 ]

نتخطف من أرضنا : بمعنى نصبح عرضة للعدوان ونهبا للناهبين .

حرما آمنا : الحرم هو المكان المحمي من العدوان ، أو المحرم فيه العدوان أو المكان الواجب الحرمة وعدم البغي فيه على اختلاف أقوال أهل التأويل ، والجملة عبارة عن منطقة مكة التي كانت قبل الإسلام حرما آمنا يحرم فيه سفك الدم والظلم ، وذلك بسبب وجود الكعبة التي كان يحج إليها العرب ويقدسونها .

في هذه الآية صورة أخرى من صور الحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ، وأسلوب آخر من أساليب الدعوة . فشقها الأول يحكي قول الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم : إنهم إن اتبعوا الهدى الذي يدعو إليه لن يلبثوا أن يصبحوا عرضة للمعتدين ونهبا للناهبين . وشقها الثاني يرد عليهم متسائلا إذا لم يكن الله قد جعلهم آمنين من العدوان بالحرم الذي أحلّهم فيه ومكنّه لهم وآمنين كذلك من العوز بما يأتي إليه من ثمرات كل شيء من كل مكان ، ثم تنتهي الآية بتقرير أن أكثرهم لا يعلمون حكمة الله ولا يقدرون تدبيراته .

تعليق على آية

{ وقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا }

وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنّا لنعلم أن الذي تقول هو الحق ولكنا إن تبعناك نخشى أن يخرجنا العرب من أرض مكة ولسنا أكثر من أكلة رأس{[1589]} ، وهذا متسق إجمالا مع روح الآية ، غير أن عطفها على ما سبقها يلهم أنها لم تنزل بسبب هذا القول مباشرة أو فورا ومنقطعة عن السياق السابق ، كما أن صيغة الجمع فيها قد تدل على أن هذا القول لم يصدر من شخص واحد أو على الأقل أنه معبر عن رأي فريق من الكفار ، فذُكر في الآية في سياق ذكر مواقف الكفار وأقوالهم والتنديد بها والردّ عليها وإقامة الحجة على أصحابها .

ويظهر أن زعماء مكة كانوا يحسبون أن الدين الجديد الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم سيقضي فيما يقضي عليه على تقاليد الحج والأشهر الحرم وأمن حرم مكة وقدسية الكعبة التي كان جوفها وفناؤها مستقرا لأوثانهم التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشن عليها حربا شديدة ، وحينئذ تزول هيبة مكة وأهلها وزعامتها الدينية اليسر والرزق والتجارة التي يتمتعون بها نتيجة لذلك ويصبحون نهبا للقبائل ، ولعلهم كانوا كذلك يتخوفون من جلب عداء العرب لهم وغدوّهم في عزلة وانفراد يسهل بهما العدوان عليهم .

وهكذا يمكن أن يقال : إن مسألة تقاليد مكة وحجها وكعبتها وأمنها وأشهرها الحرم وامتيازاتها ومنافعها مما شغل أفكار زعماء مكة ودفعهم إلى الموقف الذي وقفوه من الدعوة النبوية .

وقد احتوت الآية تطمينا ببقاء واستمرار أمن الحرم وما ييسره من أمن وأسباب رزق ورغد مما يمكن أن يعد براعة استهلال لما أقر بقاءه القرآن فيما بعد من تلك التقاليد بعد تجريدها من شوائب الشرك والوثنية ، ولاسيما أنها كانت شديدة الرسوخ ، ونواة وحدة عربية عامة ؛ لأن العرب كانوا مندمجين فيها على اختلاف بيئاتهم ونحلهم وكانت هذه الوحدة من الأهداف التي استهدفتها الدعوة المحمدية .

وأسلوب الآية يمكن أن يدل على أن ما حكته صادر من زعماء معتدلين لا يكابرون فيما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من حق وهدى ، ولكنهم كانوا يعتذرون بأعذار يرونها معقولة متصلة بمصالحهم الخاصة والعامة ، وعلى هذا يمكن أن يقال : إن كفار مكة التي أوردناها في سياق تفسير آية سورة فاطر [ 43 ] ، وآخر معتدلا يرى فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حقّا ولكنه لا يجد الجرأة على متابعته خوفا على نفسه أو مصالحه أو لاعتبارات يراها مشروعة وصائبة ، ومن هنا يتميز الرعيل الأول من المؤمنين من أبناء الأسر البارزة من قريش مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمان وحمزة وجعفر وأبي عبيدة وأبي سلمة وعمرو بن سعيد بن العاص وأخيه خالد وعامر بن أبي وقاص وفراس بن النضر ومصعب بن عمير وعثمان بن مظعون وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص وأبي حذيفة عتبة بن ربيعة ورملة بنت أبي سفيان وفاطمة بنت الخطاب وفاطمة المخزومية وأم سلمة وسهلة بنت أبي سهيل بن عمرو وريطة بنت الحارث وغيرهم وغيرهم رضي الله عنهم الذين رأوا الهدى والنور فاتبعوهما غير مبالين بآبائهم وأعمامهم وأخوالهم بما كانوا فيه من نعيم ومال وجاه ، معرّضين أنفسهم للسخط والأذى والقطيعة والحرمان مستعيضين من كل ذلك بلذة الإيمان الذي ملأ قلوبهم ، والذي رأوا فيه الغناء عن غيره فاستحقوا ثناء الله تعالى ورضوانه ، حيث قال فيهم { والسَّابِقُونَ الأَولُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ ورَضُواْ عَنْهُ وأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } سورة التوبة : [ 100 ] ، ولعل شبابهم هو الذي جعلهم ينضوون إلى لواء الدعوة الجديدة الذي حمله النبي صلى الله عليه وسلم بوحي الله وهو في أواخر عهد شبابه والتي كانت حربا على عقيدة الشرك السخيفة وكثير من تقاليد الجاهلية البعيدة عن الحق والمنطق وعلى الآثام والفواحش داعية إلى الله وحده ومكارم الأخلاق والتضامن في بناء مجتمع إنساني جديد يقوم على أسس العقل والحق والعدل والبرّ والرحمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتساوق إليه ، وحل كل ما هو طيب وتحريم كل ما هو خبيث ؛ لأنهم لم يغدوا بعد أسرى التقاليد الدينية والاجتماعية التي كانت سائدة في بيئتهم كما كان كبار أسرهم وزعمائهم ، وفي هذا ما فيه من مدى ومغزى .

ولقد شرحنا مسألة أمن الحرم في سياق تفسير سورة قريش فلا محل للإعادة بمناسبة ما احتوته الآية . وإن كان من شيء نزيده هو أن الجملة في مقامها وجملة { نتخطف من أرضنا } بخاصة قد تفيد أن الحرم ليس فقط الكعبة ومكة بل هو منطقة مكة . وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عباس يوجب على القادم من خارج مكة أن يحرم أي يلبس ثياب الإحرام من حدود معينة قبل مكة ، وهذا نصه : " إنّ النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشّام الجُحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، وقال : هنّ لهم ولكلّ آت أتى عليهنّ من غيرهنّ ممّن أراد الحجّ والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتّى أهل مكّة من مكّة " {[1590]} حيث يمكن أن يفيد هذا أن هذه الحدود هي حدود حرم مكة أو منطقتها المحرمة التي عنتها جملة { حرما آمنا } والله تعالى أعلم .


[1589]:انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير والطبرسي والخازن.
[1590]:التاج ج 2 ص 104.