اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُوٓاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ أَوَلَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (57)

ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم :

{ إن نَتَّبع الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ من أرْضِنَا }{[40576]} ، قال المبرد : الخطف الانتزاع بسرعة{[40577]} نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّا لنعلم أنَّ الذي تقوله حقٌّ ولكنا إن اتَّبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة ، فأجاب الله{[40578]} عنه من وجوه الأول : قوله : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً } ، أي أعطاكم مسكناً لا خوف لكم فيه ، إما لأن العرب يحترمون الحرم ولم يتعرضوا لسكانه ، فإنه يروى أن العرب خارجة الحرم كانوا لا يتعرَّضون لسكان الحرم{[40579]} .

قوله : «نُتَخَطَّفُ » العامة على الجزم جواباً للشرط ، والمنقريّ بالرفع{[40580]} ، على حذف الفاء ، كقوله :

4013 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا{[40581]} *** . . .

وكقراءة «يُدْرِكُكُمْ »{[40582]} بالرفع{[40583]} ، أو على التقديم وهو مذهب سيبويه{[40584]} .

قوله : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً } قال أبو البقاء عدَّاه بنفسه لأنه بمعنى «جَعَل » وقد صرحَّ به في قوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً }{[40585]} [ العنكبوت : 67 ] و «مَكَّنَ » متعد بنفسه من غير أن يضمَّن معنى «جَعَلَ » كقوله «مَكَّنَّاهُمْ »{[40586]} ، وتقدم تحقيقه في الأنعام وآمناً قيل بمعنى مؤمن أي : يؤمن من دخله{[40587]} ، وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : آمناً أهله ، وقيل فاعل بمعنى النسب أي ، ذا أمن{[40588]} .

قوله : «يُجْبَى » قرأ نافع بتاء التأنيث مراعاة للفظ ثمرات ، والباقون بالياء{[40589]} للفصل ولأن تأنيثه مجازي والجملة صفة ل «حَرَماً » أيضاً{[40590]} ، وقرأ العامة «ثَمَرَاتُ » بفتحتين{[40591]} وأبان بضمتين{[40592]} جمع ثُمُر بضمتين ، وبعضهم بفتح وسكون{[40593]} .

قوله : «رِزقاً » إن جعلته مصدراً جاز انتصابه على المصدر المؤكِّد ، لأن معنى «يُجبَى إليه » يرزقهم وأن ينتصب على المفعول له{[40594]} ، والعامل محذوف ، أي يسوقه{[40595]} إليه رزقاً ، وأن يكون في موضع الحال من «ثَمَراتٍ » لتخصصها بالإضافة ، ( كما ينتصب عن النكرة المخصصة ){[40596]} ، وإن جعلته اسماً للمرزوق{[40597]} انتصب على الحال من «ثَمَرات »{[40598]} ومعنى «يُجْبَى » ، أي يجلب ويجمع ، يقال : جبيت الماء في الحوض أي : جمعته{[40599]} قال مقاتل : يحمل إلى الحرم { ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن ما نقوله حق .


[40576]:انظر الفخر الرازي 25/4.
[40577]:المرجع السابق.
[40578]:في ب: الله تعالى.
[40579]:انظر الفخر الرازي 25/4، وأسباب النزول للواحدي 252.
[40580]:انظر البحر المحيط 7/126.
[40581]:صدر بيت من بحر البسيط، قاله حسان بن ثابت، أو عبد الرحمن بن حسان، وعجزه: والشرّ بالشرّ عند الله مثلان وتقدم تخريجه. والشاهد فيه هنا قوله: (الله يشكرها) حيث حذفت الفاء من جواب الشرط للضرورة، والأصل: فالله يشكرها.
[40582]:في النسختين: يدركُّم. من قوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت} [النساء: 78].
[40583]:وهي قراءة طلحة بن حسان. المختصر (27).
[40584]:قال سيبويه: (وسألته عن قوله: "إن تأتني أنا كريمٌ"، فقال: لا يكون هذا إلا أن يضطر شاعر، من قبل أنا كريمٌ يكون كلاماً مبتدأ، والفاء وإذا لا يكونان إلا متعلقتين بما قبلهما فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء) الكتاب 3/64، وقال: (...فإن قلت: إن تأتني زيدٌ يقل ذاك، جاز على قول من قال: زيداً ضربته، وهذا موضع ابتداء، ألا ترى أنك لو جئت بالفاء فقلت: إن تأتني فأنا خيرٌ لك، كان حسناً، وإن لم يحمله على ذلك رفع وجاز في الشعر كقوله: الله يشكرها) الكتاب 3/114.
[40585]:[العنكبوت: 67]. وانظر التبيان 2/1024.
[40586]:من قوله تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنّاهم في الأرض ما لم نمكِّن لكم} [الأنعام: 6].
[40587]:انظر معاني القرآن للفراء 2/308، التبيان 2/1024.
[40588]:انظر التبيان 2/1024، القرطبي 13/30.
[40589]:السبعة (495)، الكشف 2/175، النشر 2/342، الإتحاف 343.
[40590]:أيضاً: سقط من ب.
[40591]:في الأصل: بالفتحتين.
[40592]:المختصر (113)، المحتسب 2/153، البحر المحيط 7/126.
[40593]:"ثمرات" المختصر (113)، البحر المحيط 7/126، ولم تعز إلى قارئ معين.
[40594]:له: سقط من ب.
[40595]:في ب: يسوق.
[40596]:ما بين القوسين سقط من ب.
[40597]:في: للمرزق.
[40598]:انظر الكشاف 3/174، البحر المحيط 7/126.
[40599]:انظر الفخر الرازي 25/4.