معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَةٗۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ} (54)

قوله تعالى : { فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين* وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون*الله الذي خلقكم من ضعف } قرئ بضم الصاد وفتحها ، فالضم لغة قريش ، والفتح لغة تميم ، ومعنى من ضعف ، أي : من نطفة ، يريد من ذي ضعف ، أي : من ماء ذي ضعف كما قال تعالى : { ألم نخلقكم من ماء مهين } { ثم جعل من بعد ضعف قوة }أي : من بعد ضعف الطفولة شباباً ، وهو وقت القوة ، { ثم جعل من بعد قوة ضعفاً } هرماً ، { وشيبةً يخلق ما يشاء } من الضعف والقوة والشباب والشيبة ، { وهو العليم } بتدبير خلقه ، { القدير } على ما يشاء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَةٗۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ} (54)

وهذه أيضاً عبر بين فيها أن الأوثان لا مدخل لها فيها .

وقرأ جمهور القراء والناس بضم الضاد في «ضُعف » ، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها وهي قراءة ابن مسعود وأبي رجاء ، والضم أصوب ، وروي عن ابن عمر أنه قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح فردها عليه بالضم{[9335]} ، وقال كثير من اللغويين : ضم الضاد في البدن وفتحها في العقل ، وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك أنهم ضموا الضاد في الأول والثاني وفتحوا «ضَعفاً »{[9336]} ، وقرأ عيسى بن عمر «من ضُعُف » بضمتين ، وهذه الآية إنما يراد بها حال الإنسان ، و «الضعف » الأول هو كون الإنسان من ماء مهين ، و «القوة » بعد ذلك الشبيبة ، وقوة الأسر ، و «الضعف » الثاني الهرم والشيخ هذا قول قتادة وغيره .


[9335]:أخرجه سعيد بن منصور، وأحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، والطبراني، والشيرازي في الألقاب، والدارقطني في الأفراد، وابن عدي، والحاكم، وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه، والخطيب في تالي التلخيص – عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم : {الله الذي خلقكم من ضعف} فقال: {من ضعف} يا بني. (الدر المنثور).
[9336]:قال القرطبي: "وقرأ الجحدري: {من ضعف ثم جعل من بعد ضعف} بالفتح فيهما، [ضعفا] بالضم خاصة" 1 هـ. فقارن هذا بما ذكره ابن عطية. وما في البحر المحيط يوافق ما قاله ابن عطية. وقد حدث خلاف في الرواية عن عاصم، وذكر الإمام الحافظ ابن الجذري ذلك في كتابه: "النشر في القراءات العشر" فقال: وروينا عن حفص من طرق أنه قال: ما خالفت عاصما في شيء من القرآن إلا في هذا الحرف، وقد صح عنه الفتح والضم جميعا، فروى عنه عبيد، وأبو الربيع الزهراني، والفيل عن عمرو عنه الفتح رواية، وروى عنه أبو هبيرة، والقواس، وزرعان عن عمرو عنه الضم اختيارا"، وقال الحافظ أبو عمرو: "والاختياري في رواية حفص من طرق عمرو وعبيد الأخذ بالوجهين: بالفتح والضم، فأتابع بذلك عاصما على قراءته، وأوافق به حفصا على اختياره". ثم علق الحافظ ابن الجزري على ذلك فقال: "وبالوجهين قرأت له، وبهما آخذ".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَةٗۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ} (54)

هذا رابع استئناف من الأربعة المتقدمة رجوع إلى الاستدلال على عظيم القدرة في مختلف المصنوعات من العوالم لتقرير إمكانية البعث وتقريب حصوله إلى عقول منكريه لأن تعدد صور إيجاد المخلوقات وكيفياته من ابتدائها عن عدم أو من إعادتها بعد انعدامها وبتطور وبدونه مما يزيد إمكان البعث وضوحاً عند منكريه ، فموقع هذه الآية كموقع قوله : { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] ونظائرها كما تقدم ؛ ولذلك جاءت فاتحتها على أسلوب فواتح نظائرها وهذا ما يؤذن به تعقيبها بقوله { ويَوم تقوم الساعة يقسم المجرمون } [ الروم : 55 ] الآية .

ثم قوله { الله الذي خلقكم } مبتدأ وصفة ، وقوله { يخلق ما يشاء } هو الخبر ، أي يخلق ما يشاء مما أخبر به وأنتم تنكرون . والضعف بضم الضاد في الآية وهو أفصح وهو لغة قريش . ويجوز في ضاده الفتح وهو لغة تميم . وروى أبو داود والترمذي عن عبد الله ابن عمر قال : قرأتها على رسول الله { الذي خلقكم من ضَعف } يعني بفتح الضاد فأقرأني : { من ضُعف } يعني بضم الضاد . وقرأ الجمهور ألفاظ { ضعف } الثلاثة بضم الضاد في الثلاثة . وقرأها عاصم وحمزة بفتح الضاد ، فلهما سند لا محالة يعارض حديثَ ابن عمر . والجمع بين هذه القراءة وبين حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بلغة الضم لأنها لغة قومه ، وأن الفتح رخصة لمن يقرأ بلغة قبيلة أخرى ، ومن لم يكن له لغة تخصه فهو مخيَّر بين القراءتين . والضعف : الوهن واللين .

و { مِن } ابتدائية ، أي : مبتدَأ خلقه من ضعف ، أي : من حالة ضعف ، وهي حالة كونه جنيناً ثم صبياً إلى أن يبلغ أشده ، وهذا كقوله : { خلق الإنسان من عجل } [ الأنبياء : 37 ] يدل على تمكن الوصف من الموصوف حتى كأنه منتزع منه ، قال تعالى : { وخلق الإنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] .

والمعنى : أنه كما أنشأكم أطواراً تبتدىء من الوهن وتنتهي إليه فكذلك ينشئكم بعد الموت إذ ليس ذلك بأعجب من الإنشاء الأول وما لحقه من الأطوار ، ولهذا أخبر عنه بقوله : { يخلق ما يشاء } .

وذكر وصف العلم والقدرة لأن التطور هو مقتضى الحكمة وهي من شؤون العلم ، وإبرازُه على أحكم وجه هو من أثر القدرة . وتنكير { ضعف وقوة } للنوعية ؛ ف { ضُعف } المذكور ثانياً هو عين { ضُعف } المذكور أولاً ، و { قوة } المذكورة ثانياً عين { قوة } المذكورة أولاً . وقولهم : النكرة إذا أُعيدت نكرة كانت غير الأولى ، يريدون به التنكير المقصود منه الفرد الشائع لا التنكير المراد به النوعية . وعطف { وشيبة } للإيماء إلى أن هذا الضعف لا قوة بعده وأن بعده العدم بما شاع من أن الشيب نذير الموت .

والشيبة : اسم مصدر الشيب . وقد تقدم في قوله تعالى : { واشتعل الرأس شيباً } في سورة مريم ( 4 ) .