الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{۞ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَةٗۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ} (54)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

أخبرهم عن خلق أنفسهم ليتفكر المكذب بالبعث في خلق نفسه، فقال عز وجل: {الله الذي خلقكم من ضعف} من نطفة.

{ثم جعل من بعد ضعف قوة} شدة تمام خلقه.

{ثم جعل من بعد قوة ضعفا}: فجعل من بعد قوة الشباب الهرم.

{و} جعل {وشيبة} يعني الشمط.

{يخلق ما يشاء} هكذا يشاء أن يخلق الإنسان كما وصف خلقه.

ثم قال: {وهو} يعني الرب نفسه جل جلاله {العليم} العالم بالبعث {القدير} القادر عليه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بالبعث من مشركي قريش، محتجا عليهم بأنه القادر على ذلك وعلى ما يشاء:"اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ" أيها الناس "مِنْ ضَعْفٍ "يقول: من نُطْفة وماء مَهِين، فأنشأكم بَشَرا سويّا،

"ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةً" يقول: ثم جعل لكم قوّة على التصرّف، من بعد خلقه إياكم من ضعف، ومن بعد ضعفكم، بالصغر والطفولة،

"ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفا وَشَيْبَةً" يقول: ثم أحدث لكم الضعف بالهرم والكبر عما كنتم عليه أقوياء في شبابكم وشيبة... عن قَتادة، قوله: "الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي من نطفة ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةً، ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفا": الهرم "وَشَيْبَةً": الشّمَط.

وقوله: "يَخْلُقُ ما يَشاءُ" يقول تعالى ذكره: يخلق ما يشاء من ضعف وقوّة وشباب وشيب، "وَهُوَ العَلِيمُ" بتدبير خلقه، "القَدِيرُ" على ما يشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، فكما فعل هذه الأشياء، فكذلك يميت خلقه ويحييهم إذا شاء. يقول: واعلموا أن الذي فعل هذه الأفعال بقدرته يحيي الموتى إذا شاء.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

هذا يحتمل وجهين:

...

...

...

الثاني: أن يكون قوله: {خلقكم من ضعف} أي أطفالا، لا على الخلقة التي أنتم عليها اليوم، ضعفاء لا تقوون على أشياء وأمور، ولا يقوى شيء منكم على شيء، {ثم جعل من بعد ضعف قوة} ثم جعلكم من بعد ذلك الضعف أقوياء، تقوون على أشياء وأمور، {ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة} ثم يجعلكم من بعد تلك القوة والقدرة ضعفاء شيوخا، ولا تقدرون على شيء...

ثم فيه وجهان من الدلالة: أحدهما: على البعث. والثاني: على القدرة على إنشاء الخلق والأشياء لا من أصول.

أما الدلالة على البعث، فلأنهم كانوا ينكرون البعث وإنشاء الشيء لا من أصل لخروج عن قواهم وتقديرهم؛ يخبر أن النطفة، تصير علقة، وليس فيها من العلقة ولا من آثارها شيء. وكذلك العلقة، تصير مضغة، وليس فيها من آثار المضغة شيء، وكذلك المضغة، تصير إنسانا، فيه عظم وجلد وشعر ولحم، وليس شيء من ذلك فيها. فمن قدر على ما ذكر فيقدر على خلق الشيء لا من أصل، ويقدر على البعث، إذ كل ما ذكر أقرّوا به، وهو خارج عن قواهم وعن تقديرهم. فلزمهم الإقرار بالبعث والإنشاء لا عن أصل، وألا يقدروا قدرتهم بقدرة الله وقوته على ما شاهدوا أشياء خارجة عن قواهم وعن تقديرهم بقوة الله وقدرته.

والثاني: أن ما ذكر من تحويل النطفة إلى العلقة والعلقة إلى المضغة والمضغة إلى الصورة والإنسان، لم يحولهم، ولم ينقلهم ليكون كما ذكر بلا عاقبة تكون لهم ولا بعث. فلو لم يكن بعث لكان ما ذكر من تحويل حال إلى حال عبثا باطلا على ما ذكر. وكذلك في ما أحدث من الأطفال من القوة والقدرة بعد ما كانوا ضعفاء، لا يقوون، ولا يقدرون على شيء. أنه إنما أحدث فيهم ليمتحنوا، ويجعل لهم [عاقبة] يثابون، ويعاقبون، إذ لو لم يكن بعث ولا عاقبة لكان فعل ذلك عبثا باطلا.

وفيه القدرة على إنشاء الشيء، وإحداثه لا من شيء، إذ كان التركيب موجودا على التمام، ولا قوة به، ثم أحدث القوة، ولا أصل لها، ولا أثر من آثارها. دل أن تقدير قوى الخلق بقوى الله محال.

{يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} بأحوالهم، والقدير على إنشاء الأشياء لا من أشياء وعلى البعث بعد الموت.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

قوله: {خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} كما قال تعالى: {خلق الإنسان من عجل}: أساس أمركم وما عليه جبلتكم وبنيتكم الضعف {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء: 28] أي ابتدأناكم في أوّل الأمر ضعافاً.

وهذا الترديد في الأحوال المختلفة، والتغيير من هيئة إلى هيئة وصفة إلى صفة: أظهر دليل وأعدل شاهد على الصانع العليم القادر...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لما أعاد من الدلائل التي مضت دليلا من دلائل الآفاق وهو قوله: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا} وذكر أحوال الريح من أوله إلى آخره، أعاد دليلا من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله، فقال: {خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة...} ثم بين بقوله {يخلق ما يشاء} إن هذا ليس طبعا بل هو بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى في دلائل الآفاق {فيبسطه في السماء كيف يشاء}.

{وهو العليم القدير} تبشير وإنذار لأنه إذا كان عالما بأعمال الخلق كان عالما بأحوال المخلوقات فإن عملوا خيرا علمه وإن عملوا شرا علمه، ثم إذا كان قادرا فإذا علم الخير أثاب وإذا علم الشر عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب الذين هما بالقدرة قدم العلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ثم جعل} عن سبب وتصيير بالتطوير في أطوار الخلق بما يقيمه من الأسباب، ولما كان ليس المراد الاستغراق عبر بالجار فقال: {من بعد} ولما كان الضعف الذي تكون عنه القوة غير الأول، أظهر ولم يضمر فقال: {ضعف قوة} بكبر العين والأثر من حال الترعرع إلى القوة...

{وهو العليم} أي البالغ العلم فهو يسبب ما أراد من الأسباب لما يريد إيجاده أو إعدامه.

{القدير} فلا يقدر أحد على إبطال شيء من أسبابه، فلذلك لا يتخلف شيء أراده عن الوقت الذي يريده فيه أصلاً، وقدم صفة العلم لاستتباعها للقدرة التي المقام لها، فذكرها إذن تصريح بعد تلويح، وعبارة بعد إشارة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنها جولة مديدة، يرون أوائلها في مشهود حياتهم؛ ويرون أواخرها مصورة تصويرا مؤثرا كأنها حاضرة أمامهم. وهي جولة موحية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

(الله الذي خلقكم من ضعف).. ولم يقل خلقكم ضعافا أو في حالة ضعف إنما قال: (خلقكم من ضعف) كأن الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منها كيانهم..

والضعف الذي تشير الآية إليه ذو معان ومظاهر شتى في تكوين هذا الإنسان. إنه ضعف البنية الجسدية الممثل في تلك الخلية الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين. ثم في الجنين وأطواره وهو فيها كلها واهن ضعيف. ثم في الطفل والصبي حتى يصل إلى سن الفتوة وضلاعة التكوين. ثم هو ضعف المادة التي ذرأ منها الإنسان. الطين. الذي لولا نفخة من روح الله لظل في صورته المادية أو في صورته الحيوانية، وهي بالقياس إلى الخلقة الإنسانية ضعيفة ضعيفة. ثم هو ضعف الكيان النفسي أمام النوازع والدفعات، والميول والشهوات، التي لولا النفخة العلوية وما خلقت في تلك البنية من عزائم واستعدادات، لكان هذا الكائن أضعف من الحيوان المحكوم بالإلهام.

(الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة).. قوة بكل تلك المعاني التي جاءت في الحديث عن الضعف. قوة في الكيان الجسدي، وفي البناء الإنساني، وفي التكوين النفسي والعقلي.

(ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة).. ضعفا في الكيان الإنساني كله. فالشيخوخة انحدار إلى الطفولة بكل ظواهرها. وقد يصاحبها انحدار نفسي ناشئ من ضعف الإرادة حتى ليهفو الشيخ أحيانا كما يهفو الطفل، ولا يجد من إرادته عاصما. ومع الشيخوخة الشيب، يذكر تجسيما وتشخيصا لهيئة الشيخوخة ومنظرها.

وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء، والتي لا تتخلف مرة فيمن يمد له في العمر، ولا تبطئ مرة فلا تجيء في موعدها المضروب. إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرة، تخلق ما تشاء، وتقدر ما تشاء، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره، وفق علم وثيق وتقدير دقيق: (يخلق ما يشاء وهو العليم القدير)...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذا رابع استئناف من الأربعة المتقدمة رجوع إلى الاستدلال على عظيم القدرة في مختلف المصنوعات من العوالم لتقرير إمكانية البعث وتقريب حصوله إلى عقول منكريه... ولذلك جاءت فاتحتها على أسلوب فواتح نظائرها وهذا ما يؤذن به تعقيبها بقوله {ويَوم تقوم الساعة يقسم المجرمون} [الروم: 55] الآية...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

من الطريف أنّ القرآن يضيف عند بيان الضعف الثّاني للإنسان كلمة (وشيبة) غير أنّه لم يذكر «الطفولة» في الضعف الأول... وهذا التعبير ربّما كان إشارة إلى أن ضعف الشيخوخة والشيب أشدّ ألماً، لأنّه على العكس من ضعف الطفولة، إذ يتجه نحو الفناء والموت... هذا أوّلا، وثانياً فإن ما يتوقع من الشيبة والمسنين مع ما لهم [من] تجارب ليس كما يتوقع من الأطفال، على حين أن ضعف كل منهما مشابه للآخر، وهذا الموضوع يدعوا إلى الاعتبار كثيراً. فهذه المرحلة هي التي تدفع الأقوياء والطغاة إلى الانحناء، وتجرهم إلى الضعف والذلة!