نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَةٗۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ} (54)

ولما دل سبحانه على قدرته على البعث بوجوه من الدلالات ، تارة في الأجسام ، وتارة في القوى ، وأكثر على ذلك في هذه السورة من الحجج البينات ، وختم بأنه لا يبصر هذه البراهين إلا مَنْ حسنت طويته ، فلانت للأدلة عريكته ، وطارت في فيافي المقادير بأجنحة العلوم{[53455]} فكرته ورويته ، وصل بذلك دليلاً جامعاً بين القدرة على الأعيان والمعاني إبداء وإعادة ، ولذلك لفت الكلام إلى الاسم الجامع ولفته{[53456]} إلى الخطاب للتعميم والاستعطاف بالتشريف ، فقال مؤكداً إشارة إلى أن ذلك دال على قدرته على البعث ولابد وهم ينكرونها ، فكأنهم ينكرونه ، فإنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر : { الله } أي الجامع لصفات الكمال وحده{[53457]} .

ولما كان تعريف الموصول{[53458]} ظاهراً غير ملبس ، عبر به دون اسم الفاعل فقال{[53459]} : { الذي خلقكم } أي من العدم . ولما كان محط حال الإنسان وما عليه أساسه وجبلته الضعف ، وأضعف{[53460]} ما يكون في أوله قال{[53461]} : { من ضعف } أي مطلق - بما أشارت إليه قراءة حمزة وعاصم{[53462]} بخلاف عن حفص بفتح الضاد ، وقوى بما أشارت إليه قراءة الباقين بالضم ، أو من الماء المهين إلى ما شاء الله من الأطوار ، ثم ما{[53463]} شاء الله من سن الصبي .

ولما كانت تقوية المعنى{[53464]} الضعيف مثل إحياء الجسد الميت قال : { ثم جعل } عن سبب وتصيير بالتطوير في أطوار الخلق بما يقيمه من الأسباب ، ولما كان ليس المراد الاستغراق عبر بالجار فقال : { من بعد } ولما كان الضعف الذي تكون عنه القوة غير الأول ، أظهر ولم يضمر فقال : { ضعف قوة } بكبر العين والأثر{[53465]} من حال الترعرع إلى القوة بالبلوغ إلى التمام في أحد وعشرين عاماً ، وهو ابتداء سن الشباب إلى سن الاكتمال ببلوغ الأشد في اثنين و{[53466]} أربعين عاماً فلو لا{[53467]} تكرر مشاهدة ذلك لكان خرق العادة في إيجاده بعد عدمه{[53468]} مثل إعادة الشيخ شاباً بعد هرمه { ثم جعل من بعد قوة } في شباب تقوى به القلوب ، وتحمى له الأنوف ، وتشمخ من جرائه{[53469]} النفوس { ضعفاً } رداً لما لكم إلى أصل حالكم .

ولما كان بياض الشعر يكون غالباً من ضعف المزاج قال : { وشيبة } وهي{[53470]} بياض في الشعر ناشىء{[53471]} من برد في المزاج ويبس يذبل بهما الجسم ، وينقص الهمة والعلم ، وذلك بالوقوف من الثالثة والأربعين ، وهو أول سن الاكتهال وبالأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين ، وهو أول سن الشيخوخة ، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى .

ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها{[53472]} ، وكان من الناس من يطعن في السن وهو قوي ، أنتج ذلك كله{[53473]} - ولا بد - التصرف{[53474]} بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة فقال : { يخلق ما يشاء } أي من هذا وغيره { وهو العليم } أي البالغ العلم فهو يسبب ما أراد من الأسباب لما يريد إيجاده أو{[53475]} إعدامه { القدير* } فلا يقدر أحد على إبطال شيء من أسبابه ، فلذلك لا يتخلف شيء أراده عن الوقت الذي يريده فيه أصلاً ، وقدم صفة العلم لاستتباعها للقدرة التي المقام لها ، فذكرها إذن تصريح بعد تلويح ، وعبارة بعد إشارة .


[53455]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: المقادير.
[53456]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: لفت.
[53457]:زيد من ظ وم ومد.
[53458]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: المامول.
[53459]:سقط من ظ ومد.
[53460]:سقط من ظ.
[53461]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فقال.
[53462]:سقط من ظ.
[53463]:زيد من ظ وم ومد.
[53464]:زيد من ظ وم ومد.
[53465]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الأز.
[53466]:زيد من ظ وم ومد.
[53467]:زيد من ظ وم ومد.
[53468]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عزمه.
[53469]:من م ومد، وفي الأصل: حره، وفي ظ: حرارة ـ كذا.
[53470]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: هو.
[53471]:في ظ: تأتي.
[53472]:في ظ: ههنا.
[53473]:سقط من ظ.
[53474]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: التعرف.
[53475]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: "و".