السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَةٗۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ} (54)

ولما أعاد تعالى دليل الآفاق بقوله تعالى : { الله الذي يرسل الرياح } أعاد دليلاً من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله بقوله تعالى : { الله } أي : الجامع لصفات الكمال { الذي خلقكم من ضعف } أي : ماء ذي ضعف لقوله تعالى { ألم نخلقكم من ماء مهين } ( المرسلات ، 20 ) { ثم جعل من بعد ضعف } آخر وهو ضعف الطفولية { قوة } أي : قوّة الشباب { ثم جعل من بعد قوّة ضعفاً } أي : ضعف الكبر { وشيبة } أي : شيب الهرم وهي بياض في الشعر يحصل أوّله في الغالب في السنة الثالثة والأربعين وهو أوّل سنّ الاكتهال ، والأخذُ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين وهو أوّل سنّ الشيخوخة ، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى ، وقرأ عاصم وحمزة بخلاف عن حفص بفتح الضاد في الثلاثة وهو لغة تميم ، والباقون بالضم وهو لغة قريش .

ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها وكان من الناس من يطعن في السن وهو قويّ وأنتج ذلك كله لابدّ أن يكون التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة قال تعالى { يخلق ما يشاء } أي : من هذا وغيره { وهو العليم } بتدبير خلقه { القدير } على ما يشاء .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا { وهو العليم القدير } وقوله تعالى من قبل { وهو العزيز الحكيم } والعزة إشارة إلى كمال القدرة والحكمة إشارة إلى كمال العلم فقدم القدرة هناك على العلم ؟ أجيب : بأنّ المذكور هناك الإعادة بقوله تعالى : { وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } ( الروم : 27 ) لأنّ الإعادة بقوله تعالى : كن فيكون ، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر . ثم إنّ قوله تعالى { وهو العليم القدير } فيه تبشير وإنذار ؛ لأنه إذا كان عالماً بأحوال الخلق يكون عالماً بأحوال المخلوق فإن عملوا خيراً علمه ، وإن عملوا شرّاً علمه ، ثم إذا كان قادراً وعلم الخير أثاب وإذا علم الشرّ عاقب .

ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب اللذين هما بالقدرة والعلم قدم العلم ، وأمّا الآية الأخرى فالعلم بتلك الأحوال قبل العقاب فقال : { وهو العزيز الحكيم } .