قوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها } . وذلك أن المشركين قالوا : إن محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول قولا ويرجع عنه غداً كما أحبر الله :{ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر } وأنزل :{ ما ننسخ من آية أو ننسها } فبين وجه الحكمة في النسخ بهذه الآية . والنسخ في اللغة شيئان : أحدهما : بمعنى التحويل والنقل ، ومنه نسخ الكتاب ، وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب ، فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ .
والثاني : يكون بمعنى الرفع يقال : نسخت الشمس الظل . أي ذهبت به وأبطلته . فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخاً وبعضه منسوخاً وهو المراد من الآية . وهذا على وجوه أحدها : أن يثبت الخط وينسخ الحكم . مثل آية الوصية للأقارب . وآية عدة الوفاة بالحول . وآية التخفيف في القتال وآية الممتحنة ونحوها ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : في قوله تعالى :{ ما ننسخ من آية } ما نثبت خطها ونبدل حكمها ، ومنها أن ترفع تلاوتها ويبقى حكمها . مثل آية الرجم ، ومنها أن يرفع أصلاً عن المصحف وعن القلوب . كما روي عن أبي أمامة بن سهل ابن حنيف : أن قوماً من الصحابة رضي الله عنهم قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تلك سورة رفعت تلاوتها وأحكامها " .
وقيل : كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة ، فرفع أكثرها تلاوة وحكماً ، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه ، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة ، والوصية للأقارب نسخت بالميراث ، وعدة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، ومصابرة الواحدة العشرة في القتال نسخت بمصابرة الاثنين ، ومنها ما يرفع ولا يقام غيره مقامه ، كامتحان النساء . والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار . وأما معنى الآية فقوله :{ ما ننسخ من آية } قراءة العامة بفتح النون والسين من النسخ ، أي : نرفعها ، وقرأ ابن عامر بضم النون وكسر السين من الإنساخ وله وجهان : أحدهما : نجعله في المنسوخ . والثاني : أن نجعله في المنسوخ نسخة له . يقال : نسخت الكتاب أي كتبته ، و أنسخته غيري إذا جعلته نسخة له ، أو ننسها أي ننسها على قلبك .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نتركها لا ننسخها ، قال الله تعالى : { نسوا الله فنسيهم } أي تركوه فتركهم ، وقيل ننسها أي : نأمر بتركها ، يقال : أنسيت الشيء إذا أمرت بتركه ، فيكون النسخ الأول من رفع الحكم وإقامة غيره مقامه ، والإنساء يكون نسخاً من غير إقامة غيره مقامه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أو ننسأها بفتح النون الأول والسين مهموزاً ، أي نؤخرها فلا نبدلها . يقال : نسأ الله من أجله وأنسأ الله أجله ، وفي معناه قولان : أحدهما : نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها . كما فعل في آية الرجم ، فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم ، والقول الثاني : قال سعيد بن المسيب وعطاء : أما ما نسخ من آية فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة . أو ننسأها أي نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها .
قوله تعالى : { نأت بخير منها } . أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم ، لا أن آية خير من آية ، لأن كلام الله واحد وكله خير .
قوله تعالى : { أو مثلها } . في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل ، وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر .
قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } . من النسخ والتبديل .
{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }( 106 )
وقوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها } الآية( {[1057]} ) ، النسخ في كلام العرب على وجهين : أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر ، والثاني الإزالة ، فأما الأول فلا مدخل له في هذه الآية ، وورد في كتاب الله تعالى في قوله تعالى : { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون }( {[1058]} )
[ الجاثية : 29 ] ، وأما الثاني الذي هو الإزالة فهو الذي في هذه الآية ، وهو منقسم في اللغة على ضربين : أحدهما يثبت الناسخ بعد المنسوخ( {[1059]} ) كقولهم نسخت الشمس الظل ، والآخر لا يثبت كقولهم «نسخت الريح الأثر » ، وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين ، والناسخ حقيقة هو الله تعالى ، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخاً( {[1060]} ) إذ به يقع النسخ ، وحد الناسخ عند حذاق أهل السنة : الخطاب( {[1061]} ) الدال على ارتفاع الحكم الثابت ، بالخطاب المتقدم على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه . ( {[1062]} )
والنسخ جائز على الله تعالى عقلاً لأنه ليس يلزم عنه محال ولا تغيير صفة من صفاته تعالى ، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت ، ولا النسخ لطروّ علم ، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ويعلم نسخه بالثاني . والبداء( {[1063]} ) لا يجوز على الله تعالى لأنه لا يكونه إلا لطروّ علم أو لتغير إرادة ، وذلك محال في جهة الله تعالى ، وجعلت اليهود النسخ والبداء واحداً ، ولذلك لم يجوزوه فضلُّوا .
والمنسوخ عند أئمتنا : الحكم الثابت نفسه : لا ما ذهبت إليه المعتزلة ، من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل( {[1064]} ) ، والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة( {[1065]} ) ، وأن الحسن صفة نفسية للحسن ، ومراد الله تعالى حسن ، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة ، وعلى أن الحسن القبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة نفسية . ( {[1066]} )
والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به( {[1067]} ) ، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط ، ولو ثبت قطعاً تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخاً لا تخصيصاً . والنسخ لا يجوز في الإخبار ، وإنما هو مختص بالأوامر والنواهي( {[1068]} ) ، وردّ بعض المعترضين الأمر خبراً بأن قال : أليس معناه : «واجب عليكم أن تفعلوا كذا » ؟ فهذا خبر ، والجواب أن يقال : إن في ضمن المعنى إلا أن أنسخه عنكم وأرفعه ، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار كذلك تضمن هذا الاستثناء .
وصور النسخ تختلف ، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين( {[1069]} ) ، وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان( {[1070]} ) ، وقد ينسخ المثل بمثلة ثقلاً وخفة كالقبلة ، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى ، والنسخ التام أن تنسخ التلاوة والحكم وذلك كثير ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : «كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر » ، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم ، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة كصدقة النجوى ، وكقوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا }( {[1071]} ) [ الممتحنة : 11 ] ، والتلاوة والحكم حكمان ، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر .
وينسخ القرآن بالقرآن ، والسنة بالسنة( {[1072]} ) ، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي ، وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد ، وهذا كله متفق عليه ، وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة( {[1073]} ) ، وذلك موجود في قوله صلى الله عليه وسلم : «لا وصية لوارث » ، وهو ظاهر مسائل مالك رحمه الله ، وأبى ذلك الشافعي رحمه الله ، والحجة عليه من قوله إسقاطه الجلد في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم ، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة . فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك حذاق الأئمة على أن السنة تنسخ بالقرآن ، وذلك موجود في القبلة فإن الصلاة إلى الشام لم تكن قط في كتاب الله ، وفي قوله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار }( {[1074]} ) [ الممتحنة : 10 ] ، فإن رجوعهن إنما كان يصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش ، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلاً( {[1075]} ) ، واختلفوا هل وقع شرعاً ، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء في التحول إلى القبلة( {[1076]} ) ، وأبى ذلك قوم ، ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شروط القياس أن لا يخالف نصاً ، وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما بعد موته واستقرار الشرع فأجمعت أنه لا نسخ .
ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد النبي صلى عليه وسلم ، فإذا وجدنا إجماعاً يخالف نصاً فنعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن .
وقال بعض المتكلمين : «النسخ الثابت متقرر في جهة كل أحد علم الناسخ أو لم يعلمه » ، والذي عليه الحذاق أنه من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول ، فإذا بلغه الناسخ طرأ عليه حكم النسخ ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله ، وهو موجود في كتاب الله تعالى في قصة الذبيح .
وقرأ جمهور الناس «ما نَنْسخ » بفتح النون ، من نسخ ، وقرأت طائفة «نُنسخ » ، بضم النون من «أنسخ » ، وبها قرأ ابن عامر وحده من السبعة ، قال أبو علي الفارسي : ليست لغة لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، لا هي للتعدية لأن( {[1077]} ) المعنى يجيء ما نكتب من آية أي ما ننزل فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً ، وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وأبخلته بمعنى وجدته محموداً أو بخيلاً ، قال أبو علي : وليس نجده منسوخاً إلا بأن ننسخه فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وقد خرج قرأة هذه القرءاة المعنى على وجهين( {[1078]} ) أحدهما أن يكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في { منها } و
{ مثلها } عائدين على الضمير في { ننسأها }( {[1079]} ) ، والمعنى الآخر أن يكون { ننسخ } من النسخ بمعنى الإزالة ويكون التقدير ما ننسخك أي نبيح لك نسخه ، كأنه لما نسخها الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً ، و { ما } شرطية وهي مفعولة ب { ننسخ } ، و { ننسخ } جزم بالشرط .
واختلف القراء في قراءة قوله { ننسها } ، فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وجمهور من الناس «نُنْسِها » بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وترك الهمزة ، وهذه من أنسى المنقول من نسي ، وقرأت ذلك فرقة كما تقدم إلا أنها همزت بعد السين ، فهذه بمعنى التأخير ، تقول العرب أنسأت الدين وغيره أنسؤه إنساء إذا أخرته ، وقرأت طائفة «أو نَنْسَها » بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح السين ، وهذه بمعنى الترك ، ذكرها مكي ولم ينسبها ، وذكرها أبو عبيد البكري في كتاب اللآلي( {[1080]} ) عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهمَ ، وقرأ سعد بن أبي وقاص( {[1081]} ) «أو تُنْسَها » بتاء على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ونون بعدها ساكنة وفتح السين ، هكذا قال أبو الفتح وأبو عمرو الداني ، فقيل لسعد إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، وتلا
{ سنقرئك فلا تنسى }( {[1082]} ) [ الأعلى : 6 ] ، { واذكر ربك إذا نسيت }( {[1083]} ) [ الكهف : 24 ] ، وقرأ سعيد بن المسيب فيما ذكر عنه أيضاً «أو تُنْسَها » بضم التاء أولاً وفتح السين وسكون النون بينهما ، وهذه من النسيان ، وقرأ الضحاك بن مزاحم وأبو رجاء «نُنَسِّها » بضم النون الأولى وفتح الثانية وسين مكسورة مشددة ، وهذه أيضاً من النسيان .
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وإبراهيم النخغي وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعبيد ابن عمير وابن كثير وأبو عمرو «نَنْسَأها » بنون مفتوحة وأخرى بعدها ساكنة وسين مفتوحة وألف بعدها مهموزة ، وهذه من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض أَنْسَؤُها نَسْأَ أي أخرتها ، وكذلك يقال : أنسأ الإبل إذا زاد في ظمئها يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك بمعنى أخرها عن الورد ، وقرأت فرقة مثل هذه القراءة إلا أنها بتاء مفتوحة أولاً على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وإسناد الفعل إليه ، وقرأ أبو حيوة مثل ذلك إلا أنه ضم التاء أولاً ، وقرأ أبي بن كعب «أو نُنْسِك » بضم النون الأولى وسكون الثانية وسين مكسورة وكاف مخاطبة ، وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة «أو ننسكها » مثل قراءة أبيّ إلا أنه زاد ضمير الآية .
وقرأ الأعمش «ما ننسك من آية أو ننسخها نجىء بمثلها » وهكذا ثبتت في مصحف عبد الله بن مسعود .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذه القراءات( {[1084]} ) لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير ، أو تكون من النسيان .
والنسيان في كلام العرب يجيء في الإغلب ضد الذكر ، وقد يجيء بمعنى الترك ، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات ، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان( {[1085]} ) الذي هو ضد الذكر .
فمعنى الآية : ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة .
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان :
أحدها : ما ننسخ على وجوه النسخ( {[1086]} ) أو نترك غير منزل عليك فإنا لا بد أن ننزل رفقاً بكم خيراً من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله .
والمعنى الثاني أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم( {[1087]} ) .
والمعنى الثالث أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضاً ، على هذا رفع التلاوة والحكم .
والمعنى الرابع أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة ، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه ، ويجيء الضميران في { منها أو مثلها } عائدين على المنسوخة فقط( {[1088]} ) ، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها .
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك ، أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله( {[1089]} ) ، والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته ، والثالث ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه ، والرابع ما ننسخ أو نؤخره مثبتاً لا ننسخه( {[1090]} ) ، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك( {[1091]} ) ، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض ، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل ، وقد قال «جميعها » العلماء إما نصاً وإما إشارة فكملناها .
وقال الزجاج : إن القراءة «أو نُنْسِها » بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك ، وقال أبو علي وغيره : ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها( {[1092]} ) ، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا نسي قرآناً ، وقال أبو علي وغيره : ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة ، واحتج الزجاج بقوله تعالى : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك }( {[1093]} ) [ الإسراء : 86 ] ، أي لم نفعل ، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : على معنى إزالة النعمة كما توعد ، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج ، ورد عليه ، والصحيح( {[1094]} ) في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله ، تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآناً جائز .
فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه ، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر( {[1095]} ) لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : أفي القوم أبيّ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : فلم لم تذكرني ؟ قال : حسبت أنها رفعت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم ترفع ولكني نسيتها . ( {[1096]} )
ولفظة خير في الآية صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كانت مستوية ، وقال قوم «خير » في الآية مصدر و «من » لابتداء الغاية .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ويقلق هذا القول لقوله تعالى { أو مثلها } إلا أن يعطف المثل على الضمير في { منها } دون إعادة حرف الجر ، وذلك( {[1097]} ) معترض .
وقوله تعالى : { ألم تعلم أن } ظاهره الاستفهام ومعناه التقرير( {[1098]} ) ، والتقرير محتاج إلى معادل كالاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة { أم تريدون } [ البقرة : 18 ] ، وقال قوم { أم } هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي .
ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء ، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء ، وهذا( {[1099]} ) لإنكار اليهود النسخ .
وقوله تعالى { على كل شيء } لفظ عموم معناه الخصوص ، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء ، والشيء في كلام الموجود( {[1100]} ) ، و { قدير } اسم فاعل على المبالغة من «قَدَر » بفتح العين «يقدِر » بكسرها . ومن العرب من يقول قَدِرَ بكسر العين يقدَر بفتحها .