الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ما ننسخ من آية أو ننسها}، يعني: نبدل من آية فنحولها، فيها تقديم.

{نأت بخير منها}... نأت من الوحي مكانها أفضل منها لكم وأنفع لكم.

{أو مثلها}... أو نأت بمثل ما نسخنا "أو ننسها"، يقول: أو نتركها كما هي، فلا ننسخها...

تفسير الشافعي 204 هـ :

الناسخ من القرآن: الأمر ينزله الله من بعد الأمر يخالفه، كما حول القبلة، قال {فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاهَا} وقال: (سَيَقُولُ اَلسُّفَهَاء مِنَ اَلنَّاسِ مَا وَلّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اَلتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وأشباه له كثيرة في غير موضع.

قال: ولا ينسخ كتاب الله إلا كتابه لقول الله: {مَا نَنسَخْ مِنَ ءايَةٍ اَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} فأبان أن نسخ القرآن لا يكون إلا بقرآن مثله. وأبان الله جل ثناؤه أنه فرض على رسوله اتباع أمره فقال: {اَتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} وشهد له باتباعه فقال جل ثناؤه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اِللَّهِ} فأعلم خلقه أنه يهديهم إلى صراطه. قال: فتقام سنة رسول الله مع كتاب الله جل ثناؤه مقام البيان عدد فرضه، كبيان ما أراد بما أنزل عاما، العَامَّ أراد به أو الخاص، وما أنزل فرضا وأدبا إباحة وإرشادا، [إلا أنه لا شيء] من سنة رسول الله يخالف كتاب الله في حال، لأن الله جل ثناؤه قد أعلم خلقه أن رسوله يهدي إلى صراط مستقيم صراط الله، ولا أن شيئا من سنن رسول الله ناسخ لكتاب الله، لأنه قد أعلم خلقه أنه إنما ينسخ القرآن بقرآن مثله، والسنة تبع للقرآن. (اختلاف الحديث: 483-484)...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} إلى غيره؛ فنبدله ونغيره. وذلك أن يحوّل الحلال حراما والحرام حلالاً، والمباح محظورا والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. وأصل النسخ من «نَسْخَ الكتاب» وهو نَقْلُه من نُسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيره. فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية فسواء إذا نسخ حكمها فغُير وبُدّل فرضها ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها أوفر حَظها فتُرك، أو مُحي أثرها، فُعفّي ونُسي، إذ هي حينئذٍ في كلتا حالتيها منسوخة. والحكم الحادث المبدل به الحكم الأوّل والمنقول إليه فرض العباد هو الناسخ، يقال منه: نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا، والنسخة الاسم...

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {ما نَنْسَخْ}؛

فقال بعضهم: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}: ما نبدّل من آية.

وقال آخرون: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}: نثبت خطها ونبدل حكمها.

"أوْ نُنْسِها":

اختلفت القراءة في قوله ذلك، فقرأها قرّاء أهل المدينة والكوفة: "أوْ نُنْسِها "ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل، أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله: «ما نُنْسِكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها»، فذلك تأويل النسيان. وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل... عن قتادة قوله: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها}: كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك ثم تُنسى وتُرفع... كان عبيد بن عمير يقول: {نُنْسِها}: نرفعها من عندكم...

والوجه الاَخر منهما أن يكون بمعنى الترك، من قول الله جل ثناؤه: {نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} يعني به تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذٍ على هذا التأويل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدّل فرضها، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها... عن ابن عباس في قوله: {أوْ نُنْسِها} يقول: أو نتركها لا نبدّلها...

وقرأ ذلك آخرون: «أو ننسأها» بفتح النون وهمزة بعد السين بمعنى نؤخرها، من قولك: نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأً ونساءً إذا أخرته، وهو من قولهم: بعته بنسَاءٍ، يعني بتأخير...

وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قرّاء الكوفيين والبصريين، وتأوّله كذلك جماعة من أهل التأويل... عن عطاء في قوله: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نَنْسأها» قال: نؤخرها... [وعن] ابن أبي نجيح، يقول في قول الله: «أوْ نَنْسأها» قال: نُرْجئها...

قال: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدّل من آية أنزلناها إليك يا محمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرّها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها...

وأولى القراءات في قوله: (أوْ نُنْسِها) بالصواب من قرأ: "أو نُنْسِها"، بمعنى نتركها لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدّل حكما أو غيره أو لم يبدّله ولم يغيره، فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية إذ كان ذلك معناها، أن يكون إذ قدّم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدّل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع، إذا هو لم يبدّل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: "ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ "قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت، فهو يشتمل على معنى الإنساء الذي هو بمعنى الترك، ومعنى النّساء الذي هو بمعنى التأخير، إذْ كان كل متروك فمؤخر على حال مّا هو متروك. وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: «أوْ تُنْسَها» إذا عني به النسيان، وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ إلا أن يكون نسي منه شيئا ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرأوه وحفظوه من أصحابه بجائز على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بِالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ} ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم يُنْسِ نبيه شيئا مما آتاه من العلم.

قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك: إن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفيهم كتابا: «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا». ثم إن ذلك رفع.

فالذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون: «لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» ثم رُفع وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب. وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح ولا بحجة خبر أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذا كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول ذلك غير جائز.

وأما قوله: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ} فإنه جلّ ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه، وقد قال الله تعالى ذكره: "سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاّ ما شاءَ اللّهُ" فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء، فالذي ذهب منه الذي استثناه الله. فأما نحن فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله.

{نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها}.

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها}، فقال بعضهم:... عن ابن عباس: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها} يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال آخرون:...عن قتادة في قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها} يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، فيها أمر، فيها نهي.

وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها. وقال آخرون:...كان عبيد بن عمير يقول: "نُنْسِها": نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير منها.

والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدّل من حكم آية فنغيره أو نترك تبديله فنقرّه بحاله، نأت بخير منها لكم من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها، إما في العاجل لخفته عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم. وإما في الاَجل لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان، كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة، فنُسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كلّ حَوْل، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات، غير أن ذلك وإن كان كذلك، فالثواب عليه أجزل والأجر عليه أكثر، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان على الأبدان أشقّ فهو خير من الأوّل في الاَجل لفضل ثوابه وعظم أجره الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله: "نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها" لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه، أو في الاَجل لعظم ثوابه وكثرة أجره. أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس إلى فرضها شطر المسجد الحرام. فالتوجه شطر بيت المقدس، وإن خالف التوجه شطر المسجد، فكلفة التوجه شطر أيهما توجه شطره واحدة لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدّس من مؤنة توجهه شطره، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة سواء. فذلك هو معنى المثل الذي قال جل ثناؤه: {أوْ مِثْلِها}.

وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها} ما ننسخ من حكم آية أو نُنْسِه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها اكتفي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها. وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا، كقوله: {وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ} بمعنى حُبّ العجل ونحو ذلك. فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدّله أو نتركه فلا نبدّله، نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكما منها، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب.

فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يُشْرَبُ في القلوب وأنه لا يلتبس على من سمع قوله: {وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ} أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حُبّ العجل، فما الذي يدلّ على أن قوله: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْها} لذلك نظير؟

قيل: الذي دلّ على أن ذلك كذلك قوله: {نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها} وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعض وبعضها خير من بعض.

{ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك وأنفع لك ولهم، إما عاجلاً في الدنيا وإما آجلاً في الاَخرة. أو بأن أبدّل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلاً في الدنيا وآجلاً في الاَخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم. فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير. ومعنى قوله: "قَدِير" في هذا الموضع: قويّ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن هذا هو النوع الثاني من طعن اليهود في الإسلام، فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا وغدا يرجع عنه، فنزلت هذه الآية.

[و] النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء... [و] الأقوى أن نعول في الإثبات على قوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية} وقوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} والله تعالى أعلم...

واعلم أن الناس استنبطوا من هذه الآية أكثر مسائل النسخ.

أما قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار.

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

{قدير} استدلال على جواز النسخ لأنه من المقدورات، خلافا لليهود- لعنهم الله- فإنهم أحالوه على الله، وهو جائز عقلا، وواقع شرعا فكما نسخت شريعتهم ما قبلها، نسخها ما بعدها.

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

{ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} أي على النسخ والتبديل، والمعنى ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين وأنفع لك ولهم عاجلاً وآجلاً.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما حرم سبحانه قوله {راعنا} بعد حله وكان ذلك من باب النسخ، وأنهى ما يتعلق به بالوصف بالفضل العظيم بعد التخصيص الذي من مقتضاه نقل ما يكون من المنافع من ملك أو دين أو قوة أو علم من ناس إلى ناس، وكان اليهود يرون أن دينهم لا ينسخ، فكان النسخ لذلك من مطاعنهم في هذا الدين وفي كون هذا الكتاب هدى للمتقين، لأنه على زعمهم لا يجوز على الله، قالوا: لأنه يلزم منه البداء -أي بفتح الموحدة مقصوراً- وهو أن يبدو الشيء أي يظهر بعد أن لم يكن، وذلك لا يجوز على الله تعالى... لما كان ذلك قال تعالى جواباً عن طعنهم سابقاً له في مظهر العظمة معلماً أنه قد ألبس العرب المحسودين ما كان قد زين به أهل الكتاب دهوراً فابتذلوه ودنسوا محياه ورذلوه وغيروه وبدّلوه إشارة إلى أن الحسد لكونه اعتراضاً على المنعم يكون سبباً لإلباس المحسود ثوب الحاسد...

{ما ننسخ} والنسخ قال الحرالي: نقل بادٍ من أثر أو كتاب ونحوه من محله بمعاقب يذهبه. أو باقتباس يغني عن غيبته، وهو وارد الظهور في المعنيين في موارد الخطاب؛ والمعاقبة في هذا أظهر -...

[وقد] ساقها بغير عطف لشدة التباسها بما قبلها لاختصاصنا لأجل التمشية على حسب المصالح بالفضل والرحمة، لأنه إن كان المراد نسخ جميع الشرائع الماضية بكتابنا فلما فيه من التشريف بالانفراد بالذكر وعدم التبعية والتخفيف للأحمال التي كانت، وإن كان المراد نسخ ما شرع لنا فللنظر في المصالح الدنيوية والأخروية بحسب ما حدث من الأسباب...

{من آية} أي فنرفع حكمها، أو تلاوتها بعد إنزالها، أو نأمر بذلك على أنها من النسخ على قراءة ابن عامر، سواء [أكانت] في شرع من قبل كاستقبال بيت المقدس [أم] لم تكن... وفي صيغة نفعل إشعار بأن من تقدم ربما نسخ عنهم ما لم يعوضوا به مثلاً ولا خيراً، ففي طيه ترغيب للذين آمنوا في كتابهم الخاص بهم وأن يكون لهم عند النسخ حسن قبول فرحاً بجديد أو اغتباطاً بما هو خير من المنسوخ، ليكون حالهم عند تناسخ الآيات مقابل حال الآبين من قبوله المستمسكين بالسابق المتقاصرين عن خير لاحق وجدِّته -قاله الحرالي...

{أو ننسأها} أي نؤخرها، أي نترك إنزالها عليكم أصلاً، وكذا معنى {أو نُنسها} من أنسى في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، أي نأمر بترك إنزالها...

{نأت بخير منها أو مثلها} كما فعلنا في {راعنا} وغيرها...

أو يكون المعنى {ما ننسخ من آية} فنزيل حكمها أو لفظها عاجلاً كما فعلنا في {راعنا} أو {ننسأها} بأن نؤخر نسخها أو نتركه- على قراءة {ننسها} زمناً ثم ننسخها كالقبلة {نأت} عند نسخها {بخير منها أو مثلها}،

وقال الحرالي: وهو الحق إن شاء الله تعالى... والنسء تأخير عن وقت إلى وقت، ففيه مدار بين السابق واللاحق بخلاف النسخ، لأن النسخ معقب للسابق والنسء مداول للمؤخر، وهو نمط من الخطاب عليٌ خفي المنحى، لم يكد يتضح معناه لأكثر العلماء... لخفاء الفرقان بين ما شأنه المعاقبة وما شأنه المداولة...

ومن أمثاله ما وقع في النسء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأضاحي فتقبله الذين آمنوا نسخاً، وإنما كان إنساء وتأخيراً لحكم الاستمتاع بها بعد ثلاث إلى وقت زوال الدافّة التي كانت دفت عليهم من البوادي... فقال:"إنما نهيتكم من أجل الدافة"، ففي متسع فقهه أن أحكاماً تؤخر فتشابه النسخ من وجه ثم تعاد فتخالفه من هذا الوجه من حيث إن حكمة المنسوخ منقطعة وحكمة المنَسء متراجعة...

ومنه المقاتلة للعدو عند وجدان المنة والقوة والمهادنة عند الضعف عن المقاومة هو من أحكام المنسئ، وكل ما شأنه أن يمتنع في وقت لمعنى مّا ثم يعود في وقت لزوال ذلك المعنى فهو من المنَسئ الذي أهمل علمه أكثر الناظرين وربما أضافوا أكثره إلى نمط النسخ لخفاء الفرقان بينهما؛ فبحق أن هذه الآية من جوامع آي الفرقان، فهذا حكم النسء والإنساء وهو في العلم بمنزلة تعاقب الفصول بما اشتملت عليه من الأشياء المتعاقبة في وجه المتداولة في الجملة...

وأما النسيان والتنسية فمعناه أخفى من النسيء وهو ما يظهره الله من البيانات على سبيل إدخال النسيان على من ليس شأنه أن ينسأ كالسنن التي أبداها النبي صلى الله عليه وسلم عن تنسيته كما ورد من قوله: إني لأُنَسَّى لأسُنَّ. وقال عليه الصلاة والسلام في إفصاح القول فيه: بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت، بل هو نُسي. ومنه قيامه من اثنتين وسلامه من اثنتين حتى أظهر الله سنة ذلك لأمته، وكانت تلك الصلاة بسهوها ليست بدونها من غير سهو بل هي مثلها أو خير؛ ومن نحوه منامه عن الصلاة حتى أظهر الله توقيت الصلاة بالذكر كما كان قد أظهرها بالوقت الزماني، فصار لها وقتان: وقت نور عياني من مدارها مع الشمس، ووقت نور وجداني من مدارها مع الذكر، ولصحة وقوعها للوقتين كانت الموقتة بالذكر أداء بحسبه، قضاء بحسب فوت الوقت الزماني.

فللّه تعالى على هذه الأمة فضل عظيم فيما يكمل لها على طريق النسخ وعلى سبيل النسء وعلى جهة النسيان الذي ليس عن تراخ ولا إهمال وإنما يوقعه إجباراً مع إجماع العزم، وفي كل ذلك إنباء بأن ما وقع من الأمر بعد هذا النسيان خير من موقع ذلك الأمر الذي كان يقع على إجماع ورعاية لتستوي أحوال هذه الأمة في جميع تقلبات [أنفاسها]، كل ذلك من اختصاص رحمته وفضله العظيم...

واستدل سبحانه على إتيانه بذلك بقدرته، والقدرة الشاملة التامة مستلزمة للعلم أي وليس هو كغيره من الملوك إذا أمر بشيء خاف غائلة أتباعه ورعاياه في نقضه، واستدل على القدرة بأن له جميع الملك وأنه ليس لأحد معه أمر، وحاصل ذلك أنه لما ذكر سبحانه هذا الكتاب وأكد أمره مراراً وكان ناسخاً لفروع شريعتهم ولا سيما ما فيها من الآصار والأغلال أشار سبحانه إلى أن من أعظم ضلالهم وغيهم ومحالهم، ادعاؤهم أن النسخ لا يجوز على الله، فمنعوا من {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23] مما هو موجود في كتابهم كما أمر آنفاً، ومما سوغوه لأنفسهم بالتحريف والتبديل، ولزم من ذلك تكذيب كل رسول أتاهم بما لا تهوى أنفسهم، وفعلوا خلاف حال المؤمنين المصدقين بما أنزل إلى نبيهم وما أنزل إلى غيره، وضمن ذلك عيبهم بالقدح في الدين بالأمر بالشيء اليوم والنهي عنه غداً، وأنه لو كان من عند الله لما تغير لأنه عالم بالعواقب، ولا يخلو إما أن يعلم أن الأمر بذلك الشيء مصلحة فلا ينهى عنه بعدُ، أو مفسدة فلا يأمر به اليوم، جوابهم عن ذلك معرضاً عن خطابهم تعريضاً بغباوتهم إلى خطاب أعلم الخلق بقوله: {ألم تعلم أن الله} أي الحائز لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير} على وجه الاستفهام المتضمن للإنكار والتقرير المشار فيه للتوعد والتهديد، فيخلق بقدرته من الأسباب ما يصير الشيء في وقت مصلحة وفي وقت آخر مفسدة لحكم ومصالح دبرها لتصرم هذا العالم...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

قال الراغب: فإن قيل: إن الذي تُرك ولم يُنسخ ليس هو مثله بل هو هو، فكيف قال: {بمثلها}؟ قيل: الحكم الذي أنزل في القرآن – وكان ثابتا في الشرع الذي قبلنا- يصحّ أن يقال هو هو، إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته التي هي اللفظ. ويصح أن يقال هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط بل اعتبر باللفظ. ونحو ذلك أن يقال: ماء البئر هو ماء النهر- إذا اعتبر جنس الماء، وتارة يقال: مثل ماء النهر- إذا اعتبر قرار الماء. اه. على أن إرادة العين بالمثل شائعة -كما في قولهم: مثلك لا يبخل-

{ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} فهو يقدر على الخير، وما هو خير منه، وعلى مثله في الخير. قال الراغب: أي لا تحسبنّ أن تغييري لحكم، حالا فحالا، وأني لم آت بالثاني في الابتداء – هو العجز، فإن من علم قدرته على كل شيء لا يظن ذلك. وإنما تغيّر ذلك يرجع إلى مصلحة العباد، وأن الأليق بهم، في الوقت المتقدم، الحكم المتقدم. وفي الوقت المتأخر، الحكم المتأخر...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

(الأستاذ الإمام): للمفسرين في تفسير هذه الآية طريقان.

أحدهما: أنها على حد قوله تعالى {16: 101 "و إذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر "فالنسخ هنا بمعنى التبديل أي إذا جعلنا آية بدلا من آية فإننا نجعل هذا البدل خيرا من المبدل منه أو مثله على الأقل، فالآية عند هؤلاء في نسخ التلاوة، وقالوا إن المراد بالنسيان هو أن يأمر الله تعالى بعدم تلاوة الآية فتنسى بالمرة. (قال) وهذا بمعنى التبديل، فما هي الفائدة في عطفه عليه بأو؟ وهل هو إلا تكرار يجل كلام الله عنه؟

وثانيهما: أن المراد نسخ حكم الآية وهو عام يشمل نسخ الحكم وحده ونسخه مع التلاوة، وهذا هو القول المختار للجمهور، وقالوا في توجيهه: إنه لا معنى لنسخ الآية في ذاتها ولا حاجة إليه وإنما الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فإذا شرع حكم في وقت لشدة الحاجة إليه ثم زالت الحاجة في وقت آخر فمن الحكمة أن ينسخ الحكم ويبدل بما يوافق الوقت الآخر فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته من حيث قيام المصلحة به.

وقالوا إن المراد بالإنساء إزالة الآية من ذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في هذا أيكون بعد التبليغ أم قبله؟ فقيل بعده كما ورد في أصحاب بئر معونة وقيل قبله حتى أن السيوطي روى في أسباب النزول أن الآية كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلا فينساها نهارا فحزن لذلك فنزلت الآية. قال الأستاذ الإمام: ولا شك عندي في أن هذه الرواية مكذوبة وأن مثل هذا النسيان محال على الأنبياء عليهم السلام لأنهم معصومون في التبليغ والآيات الكريمة ناطقة بذلك كقوله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه} وقوله {أنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقد قال المحدثون والأصوليون: أن من علامة وضع الحديث مخالفته للدليل القاطع عقليا كان أو نقليا كأصول الاعتقاد وهذه المسألة منها فإن هذا النسيان ينافي العصمة المجمع عليها. وقالوا في تفسير قوله تعالى بعد ما ذكر {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} إنه ورد مورد الاستدلال على القدرة على النسخ بالمعنى الذي قالوه أي أنه لا يستنكر على الله كما زعم اليهود لأنه مما تناله قدرته ثم استدل على ذلك بقوله {ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} الآية...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول، لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة، التي سهل عليها دينها غاية التسهيل... وأخبر أن من قدح في النسخ، فقد قدح في ملكه وقدرته فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}... فإذا كان مالكا لكم، متصرفا فيكم، تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام. فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية، فما له والاعتراض؟... وهو أيضا، ولي عباده، ونصيرهم، فيتولاهم في تحصيل منافعهم، وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم، أن يشرع لهم من الأحكام، ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وسواء [أكانت] المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة -كما يدل سياق هذه الآيات وما بعدها- أم كانت مناسبة أخرى من تعديل بعض الأوامر والتشريعات والتكاليف، التي كانت تتابع نمو الجماعة المسلمة، وأحوالها المتطورة. أم كانت خاصة بتعديل بعض الأحكام التي وردت في التوراة مع تصديق القرآن في عمومه للتوراة.. سواء [أكانت] هذه أم هذه أم هذه، أم هي جميعا المناسبة التي اتخذها اليهود ذريعة للتشكيك في صلب العقيدة.. فإن القرآن يبين هنا بيانا حاسما في شأن النسخ والتعديل؛ وفي القضاء على تلك الشبهات التي أثارتها يهود، على عادتها وخطتها في محاربة هذه العقيدة بشتى الأساليب...

فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال -في فترة الرسالة- هو لصالح البشرية، ولتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها. والله خالق الناس، ومرسل الرسل، ومنزل الآيات، هو الذي يقدر هذا. فإذا نسخ آية ألقاها في عالم النسيان -سواء [أكانت] آية مقروءة تشتمل حكما من الأحكام، [أم] آية بمعنى علامة وخارقة تجيء لمناسبة حاضرة وتطوى كالمعجزات المادية التي جاء بها الرسل- فإنه يأتي بخير منها أو مثلها! ولا يعجزه شيء، وهو مالك كل شيء، وصاحب الأمر كله في السماوات وفي الأرض...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

مناسبة هذه الآية للآيات قبلها أن اليهود اعتذروا عن إعراضهم عن الإيمان بالنبيء صلى الله عليه وسلم بقولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] وأرادوا به أنهم يكفرون بغيره، وهم في عذرهم ذلك يدعون أن شريعتهم لا تنسخ ويقولون إن محمداً وصف التوراة بأنها حق وأنه جاء مصدقاً لها فكيف يكون شرعه مبطلاً للتوراة ويموهون على الناس بما سموه البداء وهو لزوم أن يكون الله تعالى غير عالم بما يحسن تشريعه وأنه يبدو له الأمر ثم يعرض عنه ويبدل شريعة بشريعة. وقد قدمنا أن الله تعالى رد عليهم عذرهم وفضحهم بأنهم ليسوا متمسكين بشرعهم حتى يتصلبوا فيه وذلك من قوله: {قل فلم يقتلون أنبئاء الله من قبل} [البقرة: 91] وقوله:

{قل إن كانت لكم الدار الآخرة} [البقرة: 94] إلخ وبأنهم لا داعي لهم غير الحسد بقوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب} إلى قوله: {ذو الفضل العظيم} [البقرة: 105] المنبئ أن العلة هي الحسد، فلما بين الرد عليهم في ذلك كله أراد نقض تلك السفسطة أو الشبهة التي راموا ترويجها على الناس بمنع النسخ.

والمقصد الأصلي من هذا هو تعليم المسلمين أصلاً من أصول الشرائع وهو أصل النسخ الذي يطرأ على شريعة بشريعة بعدها ويطرأ على بعض أحكام شريعة بأحكام تبطلها من تلك الشريعة. ولكون هذا هو المقصد الأصلي عدل عن مخاطبة اليهود بالرد عليهم. ووجه الخطاب إلى المسلمين كما دل عليه قوله: {ألم تعلم} وعطفه عليه بقوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} [البقرة: 108] ولقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ} ولم يقل من شريعة. وفي هذا إعراض عن مخاطبة اليهود لأن تعليم المسلمين أهم وذلك يستتبع الرد عى اليهود بطريق المساواة لأنه إذا ظهرت حكمة تغيير بعض الأحكام لمصلحة تظهر حكمة تغيير بعض الشرائع.

والآية في الأصل الدليل والشاهد على أمر ثم أطلقت الآية على المعجزة لأنها دليل صدق الرسول قال تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} [الإسراء: 59]. وتطلق الآية على القطعة من القرآن المشتملة على حكم شرعي أو موعظة أو نحو ذلك وهو إطلاق قرآني قال تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} [النحل: 101]

ويؤيد هذا أن من معاني الآية في كلام العرب الأمارة التي يعطيها المرسل للرسول ليصدقه المرسل إليه وكانوا إذا أرسلوا وصاية أو خبراً مع رسول أرفقوه بأمارة يسمونها آية لا سيما الأسير إذا أرسل إلى قومه برسالة كما فعل ناشب الأعور حين كان أسيراً في بني سعد بن مالك وأرسل إلى قومه... رسالة وأراد تحذيرهم بما يبيته لهم أعداؤهم الذين أسروه فقال للرسول: قل لهم كذا بآية ما أكلت معكم حيساً.ولذا أيضاً سموا الرسالة آية تسمية للشيء باسم مجاوره عرفاً.

والمراد بالآية هنا حكم الآية سواء أزيل لفظها أم أبقى لفظها لأن المقصود بيان حكمة إبطال الأحكام لا إزالة ألفاظ القرآن.

وقد أجملت جهة الخيرية والمثلية لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فتجده مراداً إذ الخيرية تكون من حيث الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس، أوما يدفع عنهم مضرة، أو ما فيه جلب عواقب حميدة، أو ما فيه ثواب جزيل، أوما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع الشدة وإن كان حملهم على الشدة قد يكون أكثر مصلحة. وليس المراد أن كل صورة من الصور المفروضة في حالات النسخ والإنساء أو النسء هي مشتملة على الخير والمثل معاً وإنما المراد أن كل صورة منهما لا تخلو من الاشتمال على الخير منها أو المثل لها فلذلك جيء ب"أو" في قوله: {بخير منها أو مثلها} فهي مفيدة لأحد الشيئين مع جواز الجمع.

وتحقيق هاته الصور بأيديكم، ولنضرب لذلك أمثالاً ترشد إلى المقصود وتغني عن البقية مع عدم التزام الدرج على القول الأصح فنقول:

(1) نسخ شريعة مع الإتيان بخير منها كنسخ التوراة والإنجيل بالإسلام.

(2) نسخ شريعة مع الإتيان بمثلها كنسخ شريعة هود بشريعة صالح فإن لكل فائدة مماثلة للأخرى في تحديد أحوال أمتين متقاربتي العوائد والأخلاق فهود نهاهم أن يبنوا بكل ريع آية يعبثون وصالح لم ينه عن ذلك ونهى عن التعرض للناقة بسوء.

(3) نسخ حكم في شريعة بخير منه مثل نسخ كراهة الخمر الثابتة بقوله: {قل فيهما إثم كبير ومنافع} [البقرة: 219] بتحريمها بتاتاً فهذه الناسخة خير من جهة المصلحة دون الرفق وقد يكون الناسخ خيراً في الرفق كنسخ تحريم الأكل والشرب وقربان النساء في ليل رمضان بعد وقت الإفطار عند الغروب إذا نام الصائم قبل أن يتعشى بقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى قوله: {من الفجر} [البقرة: 187] قال في الحديث في « صحيح البخاري» ففرح المسلمون بنزولها.

(4) نسخ حكم في الشريعة بحكم مثله كنسخ الوصية للوالدين والأقربين بتعيين الفرائض والكل نافع للكل في إعطائه مالاً، وكنسخ فرض خمسين صلاة بخمس صلوات مع جعل ثواب الخمسين للخمس فقد تماثلتا من جهة الثواب، وكنسخ آية {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} [البقرة: 184] بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] إلى قوله: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 184] فأثبت كون الصوم خيراً من الفدية.

(5) إنساء بمعنى التأخير لشريعة مع مجيء خير منها، تأخير ظهور دين الإسلام في حين الإتيان بشرائع سبقته كل واحدة منها هي خير بالنسبة للأمة التي شرعت لها والعصر الذي شرعت فيه فإن الشرائع تأتي للناس بما يناسب أحوالهم حتى يتهيأ البشر كلهم لقبول الشريعة الخاتمة التي هي الدين عند الله فالخيرية هنا ببعض معانيها وهي نسبية.

(6) إنساء شريعة بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوعه بعد حين ومع الإتيان بمثلها كتأخير شريعة عيسى في وقت الإتيان بشريعة موسى وهي خير منها من حيث الاشتمال على معظم المصالح وما تحتاج إليه الأمة.

(7) إنساء بمعنى تأخير الحكم المراد مع الإتيان بخير منه كتأخير تحريم الخمر وهو مراد مع الإتيان بكراهته أو تحريمه في أوقات الصلوات فقط فإن المأتي به خير من التحريم من حيث الرفق بالناس في حملهم على مفارقة شيء افتتنوا بمحبته.

(8) إنساء شريعة بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها أي أوسع وأعم مصلحة وأكثر ثواباً لكن في أمة أخرى أو بمثلها كذلك.

(9) إنساء آية من القرآن بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها في باب آخر أي أعم مصلحة أو بمثلها في باب آخر أي مثلها مصلحة أو ثواباً مثل تحريم الخمر في وقت الصلوات وينزل في تلك المدة تحريم البيع في وقت صلاة الجمعة.

(10) نسيان شريعة بمعنى اضمحلالها كشريعة آدم ونوح مع مجيء شريعة موسى وهي أفضل وأوسع وشريعة إدريس مثلاً وهي مثل شريعة نوح.

(11) نسيان حكم شريعة مع مجيء خير منه أو مثله، كان فيما نزل عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات ثم نسيا معاً وجاءت آية {وأخواتكم من الرضاعة} [النساء: 23] على الإطلاق والكل متماثل في إثبات الرضاعة ولا مشقة على المكلفين في رضعة أوعشر لقرب المقدار. وقيل: المراد من النسيان الترك وهو حينئذ يرجع معناه وصوره إلى معنى وصور الإنساء بمعنى التأخير.

والمقصد من قوله تعالى: {نأت بخير منها أو مثلها} إظهار منتهى الحكمة والرد عليهم بأنهم لا يهمهم أن تنسخ شريعة بشريعة أو حكم في شريعة بحكم آخر ولا يقدح ذلك في علم الله تعالى ولا في حكمته ولا ربوبيته لأنه ما نسخ شرعاً أو حكماً ولا تركه إلا وهو قد عوض الناس ما هو أنفع لهم منه حينئذ أو ما هو مثله من حيث الوقت والحال، وما أخر حكماً في زمن ثم أظهره بعد ذلك إلا وقد عوض الناس في إبان تأخيره ما يسد مسده بحسب أحوالهم، وذلك مظهر الربوبية فإنه يرب الخلق ويحملهم على مصالحهم مع الرفق بهم والرحمة، ومراد الله تعالى في تلك الأزمنة والأحوال كلها واحد وهو حفظ نظام العالم وضبط تصرف الناس فيه على وجه يعصم أحوالهم من الاختلال بحسب العصور والأمم والأحوال إلى أن جاء بالشريعة الخاتمة وهي مراد الله تعالى من الناس ولذلك قال: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] وقال أيضاً: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً} [الشورى: 13] الآية.

والظاهر أن الإتيان بخير أو بمثل راجع إلى كل من النسخ والإنساء فيكون الإتيان بخير من المنسوخة أو المنساة أو بمثلها وليس الكلام من اللف والنشر.

فقوله تعالى: {نأت بخير منها أو مثلها} هو إما إتيان تعويض أو إتيان تعزيز. وتوزيع هذا الضابط على الصور المتقدمة غير عزيز. والمعنى أنا لم نترك الخلق في وقت سدى، وأن ليس في النسخ ما يتوهم منه البداء.

وفي الآية إيجاز بديع في التقسيم قد جمع هاته الصور التي سمعتموها وصوراً تنشق منها لا أسألكموها لأنه ما فرضت منها صورة بعد هذا إلا عرفتموها.

ومما يقف منه الشعر ولا ينبغي أن يوجه إليه النظر ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى: {ننسها} أنه إنساء الله تعالى المسلمين للآية أو للسورة، أي إذهابها عن قلوبهم أو إنساؤه النبيء صلى الله عليه وسلم إياها فيكون نسيان الناس كلهم لها في وقت واحد دليلاً على النسخ واستدلوا لذلك بحديث أخرجه الطبراني بسنده إلى ابن عمر قال « قرأ رجلان سورة أقرأهما إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فغديا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال لهما: "إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها" قال ابن كثير هذا الحديث في سنده سليمان بن أرقم وهو ضعيف وقال ابن عطية هذا حديث منكر أغرب به الطبراني وكيف خفي مثله على أئمة الحديث.

والصحيح أن نسيان النبيء ما أراد الله نسخه ولم يرد أن يثبته قرآناً جائز، أي لكنه لم يقع فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبيء معصوم عنه قبل التبليغ، وأما بعد التبليغ وحفظ المسلمين له فجائز وقد روي أنه أسقط آية من سورة في الصلاة فلما فرغ قال لأبيّ لم لم تذكرني قال حسبت أنها رفعت قال: لا ولكني نسيتها اهـ. والحق عندي أن النسيان العارض الذي يُتذكر بعده جائز ولا تحمل عليه الآية لمنافاته لظاهر قوله: {نأت بخير منها أو مثلها} وأما النسيان المستمر للقرآن فأحسب أنه لا يجوز. وقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6] دليل عليه وقوله: {إلا ما شاء الله} [الأعلى: 7] هو من باب التوسعة في الوعد وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعلى. وأما ما ورد في « صحيح مسلم» عن أنس قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول ببراءة فانسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثاً وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب اهـ. فهو غريب وتأويله أن هنالك سورة نسخت قراءتها وأحكامها، ونسيان المسلمين لما نسخ لفظه من القرآن غير عجيب على أنه حديث غريب اهـ.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وإن النسخ في ذاته لا في القرآن بالذات لا ينكره أحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربي المؤمنين، ويدع الدين الحق في قلوبهم، وقد مكث بينهم ثلاثة وعشرين عاما يربيهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وما كانوا ليقبلوا ذلك التهذيب الكامل الذي ينقلهم من الجاهلية إلى العلم والتفكير، والعمل التقي الطاهر دفعة واحدة؛ بل لابد أن يأخذهم في رفق وأناة يقر أمورا على رجاء التغيير، حتى تشرب قلوبهم حب الإسلام، وحب آدابه...

وليس معنى ذلك أن الله تعالى كان يجهل الحقائق ثم علم وهو ما يسمى بالبداء، والله تعالى منزه عنه تبارك وتعالى، وإنما معناه أن الله عالم بكل شيء، ولكن نبيه كان كالمربي الذي يتدرج بتعليمه حتى يشب ويعلو فكره، فتتكامل الشريعة نزولا إذ تكامل عقله إدراكا وبيانا. لذلك كان النسخ وكانت الأحكام التي تجيء في السنة موضع التناسخ الثابت بالحديث...

ولكن هل يجيء النسخ في القرآن، قال جمهور العلماء ذلك مستدلين بقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} ولكن نقول: إن الآية الكريمة كما في بيان الشرط وجوابه، تدل على الإمكان لا على الوقوع فعلا، وإن هذا على أساس تفسير الآية بمعنى الآية القرآنية المشتملة على حكم تكليفي، ولكن كلمة الآية تدل معانيها على الآية الكونية، والمعجزات الكونية والحسية التي يجيء بها الرسل كإحياء عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله تعالى، وإحياء الموتى من قبورهم، وتصويره كهيئة الطير فينفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله تعالى، وكعصا موسى عليه السلام التي فلقت البحر وفجرت الماء من الحجر، وكإرسال الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات.

وإن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات أي معجزات دالة على رسالته كمعجزات عيسى وموسى ويظهر أن اليهود طلبوا مثلها، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} أي ما ننزل آية لنبي أو رسول أو نؤجلها إلا أتينا بخير منها أو مثلها، وفي ذلك إشارة إلى أن معجزة القرآن خير من المعجزات التي سبقت كمعجزة موسى وعيسى؛ لأن معجزاتهم حوادث تنقضي، وتنتهي بانتهاء وقتها ولا تؤثر إلا في نفوس من عاينوا، وشاهدوا، أما معجزة القرآن، فإنها باقية خالدة تتحدى الأجيال كلها إلى يوم القيامة.

وإننا نميل إلى تفسير الآية بالمعجزة، وذلك للأمور الآتية:

أولا – تعقيب النسخ والتغيير بقوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} فإن ذلك يتناسب بوضوح مع الآية بمعنى المعجزة القاهرة التي تدل (على قدرة الله وصدق رسوله)، والمعجزة الكونية، ولا تظهر مناسبة مع آية التكليف.

وثانيا – قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} فذكر هذا النص السامي يدل قياسا أن النسخ أو الترك يكون لآية كونية بخير منها، تكون أبقى وأعظم أثرا.

ثالثا – أنه كان لوم على طلب آية أخرى، فقد قال تعالى: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} هذه الآيات كلها جاءت تالية لآية النسخ وهي في تواليها تناسب أن تكون الآية المنسوخة معجزة من معجزات الرسالة الإلهية، ومعجزات النبيين.

ورابعا – أن النسخ يقتضي ألا يمكن الجمع بين الناسخ والمنسوخ، وليس في القرآن آية تتعارض، ولا يمكن التوفيق بينها، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

من [البدهيات] المتعارفة أن الإنسانية قد مرت بعدة أطوار، وأن الله تعالى بفضل ربوبيته، وفيض رحمته، لم يزل يبعث لهداية الإنسان الأنبياء والرسل، فوجا إثر فوج، ما بين الفترة والأخرى، وكلفه على لسانهم في كل مرحلة من مراحل حياته بالتكاليف المناسبة لتلك المرحلة، أخذا بيد الإنسان، الذي اقتضت حكمته أن يستخلفه في الأرض، إلى طريق الرشاد، وتدريجا له في مدارج التكليف من حال إلى حال، على قدر إدراكه، وحسب استطاعته، وتبعا لحاجته، وهكذا كلما بلغ الإنسان درجة أرقى في التطور رفع عنه الحق سبحانه وتعالى من التكاليف ما لم يعد مناسبا، وكلفه بشرع جديد هو أكثر ملائمة لواقعه الجديد. فلما استدار الزمان بحلول موعد البعثة المحمدية، وأذن الله بدخول الإنسان في بداية مرحلة الرشد، وإعداده لدرجة أعلى من الوعي والنضج، بعث الله خاتم الأنبياء بخاتمة الشرائع التي لا شريعة بعدها، والتي جاءت بنسخ ما قبلها مما لا يتفق معها.

ومن ثم كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة إلى الناس كافة، للدخول تحت حكمها، والتزام القيام بتكاليفها، ومن ثم كان رفضه البات لعذر بني إسرائيل في التخلف عن ركب الإسلام، بدعوى استحالة النسخ وزعم (الالتزام)

وعلاوة على ذلك فإن في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}. إشارة خفيفة وتمهيدا مبدئيا لأمر إلهي آخر، سيوحي به الحق سبحانه وتعالى إلى رسوله والمؤمنين خلال فترة قريبة غير بعيدة، ألا وهو الأمر بالتخلي عن استقبال بيت المقدس في الصلاة، بعد استقباله منذ بدء الهجرة حوالي سبعة عشر شهرا، والتحول عنه إلى استقبال البيت الحرام، مما ستوضحه آيات أخرى في الحصص القادمة. نعم جاءت في حصتنا اليوم آية كريمة تمهد الجو لهذا الحادث المهم، الذي سيخصص للمسلمين قبلة يستقلون بها عن بقية الملل، والآية التي أومأنا إليها تشير للأمر المنتظر بمنتهى الإجمال والإيجاز، وهي قوله تعالى: {وَلِلَهِ المَشرِقُ والمَغرِبُ، فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ، إِنَّ اللهِ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)}. ومن هنا يتجه الخطاب القرآني فجأة إلى المؤمنين محذرا إياهم من تقليد بني إسرائيل في إلقاء أسئلتهم المحرجة، القائمة على روح الجدل والتعنت، فيقول: {أَمْ تُرِيدُونَ أن تَسئَلُوا رَسُولَكُم كَمَا سُئِلَ مُوسى مِن قَبلُ}. والتشبه هنا واقع بالأسئلة التي وجهها إلى موسى بنو إسرائيل في شأن البقرة وذبحها، طبقا لما حكته عنهم الآيات السالفة. وتأتي في نفس المقام آية أخرى تستنكر أن يقف بعض البسطاء ممن لا يعلمون، موقفا مشابها لموقف بني إسرائيل، تقليدا لأساليبهم الملتوية في العناد والتردد، إذ تقول حكاية عن هذا الفريق "الإسرائيلي الاتجاه ": {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}. ثم تعقب على هذا القول كاشفة عن مصدره، ومبينة لسببه، إذ تقول: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}. وواضح أن تشابه القلوب، أي تشابه العواطف والمشاعر، عامل من عوامل التشابه في الأفكار والآراء والارتسامات، والذين قالوا مثل هذا القول من قبلهم هم بنو إسرائيل، قالوه لموسى كما حكته عنهم آية سابقة: {وَإذ قُلتُم يَا مُوسى لَن نُومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهرَةً}. وهكذا يكافح الإسلام كل ما يتسرب إلى مجتمعه من شبه بني إسرائيل وضلالاتهم ودعاياتهم...