وقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا . . . } [ البقرة :106 ]
النَّسْخُ في كلام العرب ، على وجهين :
أحدهما : النَّقْل ، كنقل كتابٍ من آخر ، وهذا لا مدْخَل له في هذه الآية ، وورد في كتاب اللَّه تعالى في قوله : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] .
الثاني : الإِزالةُ ، وهو الذي في هذه الآية ، وهو منقسمٌ في اللغة على ضَرْبَيْنِ :
أحدهما : يثبت الناسخ بعد المنسوخ ، كقولهم : نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ ،
والآخر لا يثبت كقولهم : نَسَخَتِ الرِّيحُ الأَثَرَ ، وورد النسخ في الشَّرْع حسب هذَيْن الضربَيْن ، وحَدُّ «النَّاسِخ » عنْد حُذَّاق أهل السنة : الْخِطَابُ الدالُّ على ارتفاع الحُكْمِ الثَّابتِ بالخطابِ المتقدِّمِ ، على وجْهٍ لولاه لكان ثَابِتاً مع تراخيه عنه .
( ت ) قال ابن الحاجِبِ : والنَسْخُ لغةً : الإِزالة ، وفي الاصطلاح : رفع الحُكْمِ الشرعيِّ ، بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّر ، انتهى من «مختصره الكبير » .
والنسْخُ جائز على اللَّه تعالى عقلاً ، لأنه لا يلزم عنه محالٌ ، ولا تغييرُ صفة من صفاته تعالى ، وليست الأوامر متعلِّقة بالإِرادة ، فيلزم من النسْخ أنَّ الإِرادة تغيَّرت ، ولا النسخ لطرو علْم بل اللَّه تعالى يعلم إلى أيِّ وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ، ويعلم نسخه له بالثاني ، والبَدَاُ لا يجوزُ على اللَّه تعالى ، لأنه لا يكون إلا لطرو علْمٍ ، أو لتغيُّر إِرادة ، وذلك محالٌ في جهة اللَّه تعالى ، وجعلت اليهود النسْخَ والبَدَاَ واحداً ، فلم يجوِّزوه ، فضَلُّوا ، والمنسوخُ عند أئمتنا : الحُكْم الثابتُ نفسُه ، لا ما ذهْبت إِلَيْه المعتزلةُ من أنه مثل الحُكْم الثَّابت ، فيما يستقبلُ ، والذي قادهم إلى ذلك مذهَبُهم في أنَّ الأوامر مرادةٌ ، وأن الحُسْن صفةٌ نفسيَّةٌ للحَسَنِ ، ومراد اللَّه تعالى حَسَنٌ ، وقد قامت الأدلَّة على أنَّ الأوامر لا ترتبطُ بالإِرادة ، وعلى أن الحُسْن والقُبْح في الأحكام ، إِنما هو من جهة الشرع ، لا بصفة نفسيَّة ، والتخصيصُ من العموم يوهم أنه نسْخ ، وليس به ، لأن المتخصَّص لم يتناولْه العمومُ قطُّ ، ولو تناوله العموم لكان نسخاً ، والنسخ لا يجوز في الأخبار ، وإِنما هو مختصٌّ بالأوامر والنواهي ، ورد بعض المعترضين الأمر خبراً ، بأن قال : أليس معناه : وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أنْ تَفْعَلُوا كذا ، فهذا خبر ، والجوابُ أن يقال : إِن في ضمن المعنَى : إِلاَّ أنْ أنْسَخَهُ عنْكُم ، وأرفعه ، فكما تضمَّن لفظ الأمر ذلك ، الإِخبار كذلك تضمَّن هذا الاستثناءُ ، وصور النسخ تختلفُ ، فقد ينسخ الأثقل إِلى الأَخَفِّ ، وبالعكس ، وقد ينسخ المثلُ بمثلهِ ثِقَلاً وخِفَّةً ، وقد ينسخ الشيء لا إِلى بدل ، وقد تُنْسَخُ التلاوة دون الحُكْم ، وبالعكس ، والتلاوة والحكم حكمان ، فجائز نَسْخ أحدهما دون الآخر ، ونسْخُ القرآن بالقرآن ، وينسخ خبر الواحدِ بخبر الواحدِ ، وهذا كله مُتَّفَقٌ عليه ، وحُذَّاق الأئمَّة على أن القرآن ينسخ بالسنة ، وذلك موجودٌ في قوله عليه السلام : ( لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ) ، وهو ظاهر مسائل مالكٍ .
( ت ) ويعني بالسنةِ الناسخة للقرآن : الخَبَرَ المتواترَ القطعيَّ ، وقد أشار إلى أن هذا الحديث مُتَوَاتِرٌ ، ذكره عند تفسير قوله تعالى : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } [ البقرة : 180 ] ، واختلف القُرَّاء في قراءة قوله تعالى : { أَوْ نُنسِهَا }[ البقرة :106 ] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «نَنْسَأْهَا » ، بنون مفتوحةٍ ، وأخرى ساكنة ، وسين مفتوحة ، وألف بعدها مهموزةٍ ، وهذه بمعنى التأخير ، وأما قراءة نافعٍ والجمهورِ : ( نُنْسِهَا ) من النسيان ، وقرأَتْ ذلك فرقةٌ ، إِلاَّ أنها همزت بعد السين ، فهذه بمعنى التأخير ، والنِّسْيَان في كلام العربِ يجيء في الأغلب ضدَّ الذكر ، وقد يجيء بمعنى التَّرْك ، فالمعاني الثلاثة مقولَةٌ في هذه القراءات ، فما كان منها يترتَّب في لفظةَ النسيان الذي هو ضدُّ الذكْر ، فمعنى الآية به : ما ننسَخْ من آيةٍ أو نقدِّر نسيانَكَ لَهَا ، فإنَّا نأتي بخيرٍ منها لكُمْ ، أو مثلها في المنفعة ، وما كان على معنى الترك ، أو على معنى التأخيرِ ، فيترتَّب فيه معانٍ انظرها إِنْ شئْتَ فإِنِّي آثرت الاختصار .
( ع ) والصحيح أن نسيان النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا أراد اللَّه أن يَنْسَاهُ ، ولم يرد أن يثبته قرآناً جائزٌ ، فأما النِّسْيَان الذي هو آفة في البشر ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم معصومٌ منْه قبل التبليغ ، وبعد التبليغ ، ما لم يحفظْه أحد من أصْحابه ، وأما بعد أن يحفظ ، فجائز علَيْه ما يجوز على البَشَر ، لأنه صلى الله عليه وسلم قد بَلَّغَ وأدَّى الأمانة ، ومنه الحديثُ ، " ِحينَ أَسْقَطَ آيَةً ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ : ( أَفِي القَوْمِ أُبَيٌّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَلِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي ؟ قَالَ : حَسِبْتُ أَنَّهَا رُفِعَتْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَمْ تُرْفَعْ ، وَلَكِنِّي نُسِّيتُهَا ) " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.