بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

ثم قال تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ، قرأ ابن عامر { مَا نَنسَخْ } برفع النون وكسر السين ، وقرأ الباقون { مَا نَنسَخْ } بالنصب ومعناهما واحد . وقرأ أبو عمرو وابن كثير { أَوْ ننسأها } بنصب النون والسين والهمزة ، وقرأ الباقون { آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } برفع النون وكسر السين بغير همز . فمن قرأ { نَنْسَأهَا } أي نؤخرها ، ومنه النسيئة في البيع وهو التأخير . ومن قرأ { أَوْ نُنسِهَا } أي نتركها مثل قوله تعالى : { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون } [ التوبة : 67 ] أي تركهم في النار ، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح في قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ما ننسخ من آية فلا نعمل بها { أَوْ نُنسِهَا } ندعها غير منسوخة والنسخ رفع الشيء وإقامة غيره مقامه ، وفي الشرع رفع كل حكم قبل فعله أو بعده إذا كان مؤقتاً . ثم قال تعالى { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا } ، يعني أهون وألين منها على الناس { أَوْ مِثْلِهَا } في المنفعة .

وقال الزجاج : النسخ في اللغة ، هو إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه ، والعرب تقول : نسخت الشمس الظل إذا أزالته . { أَوْ نُنسِهَا } أي نتركها ، معناه أي نأمركم بتركها . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : النسخ له ثلاثة مواضع ولكل منها شواهد ودلائل ، فأحدها : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي نبدلها ونوضحها ، وما روي عن مجاهد أنه قال : نثبت خطها ، ونبدل حكمها . فهذا هو المعروف عند الناس . الثاني : أن ترفع الآية المنسوخة بعد نزولها ولهذا دلائل جاءت فيه ، من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ذات يوم صلاة الغداة ، فترك آية ، فلما فرغ من صلاته قال : { هَلْ فِيكُمْ أُبَيٌّ } ؟ قالوا : نعم . ( قال : هَلْ تَرَكْتُ مِنْ آيَة ؟ قالوا : نعم ] تركت آية كذا ، أنسخت أم نسيت قال : « لا ، ولكن نَسِيتُ » وجاءت الآثار في نحو هذا ، لأن الآية قد تنسخ بعد نزولها وترفع . والنسخ الثالث : تحويله من كتاب إلى كتاب ، وهو ما نسخ من أم الكتاب ، فأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { أَوْ ننساها } أي نتركها في اللوح المحفوظ .

وقال بعضهم : لا يجوز النسخ فيما يرفع كله بعد نزوله ، لأن الله تعالى قال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون } [ الحجر : 9 ] وقال : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ } [ القيامة : 17 ] ولكن أكثر أهل العلم قالوا : يجوز ذلك . والنسخ يجوز في الأمر والنهي والوعد والوعيد ولا يجوز في القصص والأخبار ، لأنه لو جاز ذلك يكون كذباً ، والكذب في القرآن لا يجوز . ثم قال تعالى : { مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } من الناسخ والمنسوخ .