لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

قوله عز وجل : { ما ننسخ من آية أو ننسها } الآية . وسبب نزولها أن المشركين قالوا : إن محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول : اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ما يقول : إلا من تلقاء نفسه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله :

{ إذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر }

فأنزل ما ننسخ من آية فبين بهذه الآية وجه الحكمة في النسخ وأنه من عنده لا من عند محمد صلى الله عليه وسلم . وأصل النسخ في اللغة يكون بمعنى النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب ، وهو أن ينقل من كتاب إلى كتاب آخر كذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثله في كتاب آخر ، فعلى هذا المعنى يكون القرآن كله منسوخاً ، وذلك أنه نسخ من اللوح المحفوظ ونزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، ويكون النسخ بمعنى الرفع والإزالة وهو إزالة شيء بشيء يعقبه كنسخ الشمس الظل ، والشيب الشباب فعلى هذا المعنى يكون بعض القرآن منسوخاً وبعضه ناسخاً ، وهو المراد من حكم هذه الآية وهو إزالة الحكم بحكم يعقبه .

فصل في حكم النسخ :

هو في اصطلاح العلماء ، عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه ، والنسخ جائز عقلاً وواقع سمعاً خلافاً لليهود ، فإن منهم من ينكره عقلاً لكنه منعه سمعاً ، وشذت طائفة قليلة من المسلمين فأنكرت النسخ احتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ، ووقوعه بأن الدلائل قد دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته لا تصح ، إلا مع القول ، بالنسخ وهو نسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ . ولنا على اليهود إلزامات : منها أن الله تعالى حرم عليهم العمل في يوم السبت ، ولم يحرمه على من كان قبلهم . ومنها أنه قد جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه الصلاة والسلام عند خروجه من الفلك : إني جعلت كل دابة مأكولاً لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم . ثم إنه تعالى حرم على موسى عليه الصلاة والسلام وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوانات . ومنها إن آدم عليه الصلاة والسلام كان يزوج الأخ للأخت وقد حرمه على من بعده وعلى موسى عليه الصلاة والسلام فثبت بهذا جواز النسخ ، وحيث ثبت جواز النسخ فقد اختلفوا فيه على وجوه : أحدها أن القرآن نسخ جميع الشرائع والكتب القديمة كالتوراة والإنجيل وغيرهما . الوجه الثاني المراد من النسخ هو نسخ القرآن ونقله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا الوجه الثالث ، وهو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أن المراد من النسخ هو رفع حكم بعض الآيات بدليل آخر يأتي بعده وهو المراد بقوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } لأن الآية إذ أطلقت ، فالمراد به آيات القرآن لأنه هو المعهود عندنا .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة ، واستدل بهذه الآية وهو أنه تعالى قال : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } وذلك يفيد أنه تعالى هو الآتي والمؤتي به هو من جنس القرآن ، وما كان من جنس القرآن فهو قرآن . وقوله : نأت بخير منها يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير ، وهو القرآن الذي هو كلام الله دون السنة ولأن السنة لا تكون خيراً من القرآن ولا مثله . واحتج الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة بأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " أجاب الشافعي رضي الله عنه : بأن هذا ضعيف لأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ، وتقرير هذا وبسطه معروف في أصول الفقه . ثم النسخ في القرآن على وجوه : أحدها ما رفع حكمه وتلاوته كما روى عن أبي إمامة بن سهل : " أن قوماً من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تلك السورة رفعت بتلاوتها وحكمها " أخرجه البغوي بغير سند . وقيل : إن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة فرفع بعضها تلاوة وحكماً . الوجه الثاني ، ما رفع تلاوته وبقي حكمه مثل آية الرجم روي عن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله بعث محمداً بالحق ، وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ، ووعيناها وعقلناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف . أخرجه مسلم وللبخاري نحوه . والوجه الثالث ما رفع حكمه وثبت خطه وتلاوته وهو كثير في القرآن ، مثل آية الوصية للأقربين نسخت بآية الميراث عند الشافعي وبالسنة عند غيره وآية عدة الوفاة بالحول ، نسخت بآية أربعة أشهر وعشراً وآية القتال وهي قوله :

{ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } الآية نسخت بقوله :{ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً } الآية ومثل هذا كثير في القرآن . وأما معنى الآية فقوله : ما ننسخ من آية أي نرفعها أو نرفع حكمها أو ننسها قرئ بضم النون وكسر السين ، ومعناها نثبتها على قلبك وقال ابن عباس : نتركها لا ننسخها . وقيل : معناه نأمر بتركها فعلى هذا يكون النسخ الأول رفع الحكم ، وإقامة غيره مقامه والإنساء نسخ من غير إقامة غيره وقرئ ننسأها بفتح النون والسين وبالهمزة ومعناها : نؤخرها فلا ننزلها أو نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كآية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة ، والحكم قال سعيد بن المسيب وعطاء : ما ننسخ من آية فهو ما نزل من القرآن جعلاه من نسخت الكتاب إذا نقلته إلى كتاب آخر وننسأها أن نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها { نأت بخير منها } أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجوركم وليس معناه أن آية خير من آية لأن كلام الله تعالى كله واحد { أو مثلها } أي في المنفعة والثواب فما نسخ إلى الأيسر كان أسهل في العمل كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل ، ثم نسخ ذلك فكان خيراً لهم في عاجلهم لسقوط التعب والمشقة عليهم ، وما نسخ إلى الأشق كان أكمل في الثواب كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة فنسخ ذلك ، وفرض صيام شهر رمضان فكان صوم شهر كامل في السنة أثقل على الأبدان ، وأشق من صيام أيام معدودات فكان ثوابه أكمل وأكثر . أما المثل فكنسخ التوجه إلى بيت المقدس ، وصرفه إلى المسجد الحرام واستواء الأجر في ذلك لأن على المصلي التوجه إلى حيث أمره الله تعالى : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } أي على النسخ والتبديل ، والمعنى ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي ، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين وأنفع لك ولهم عاجلاً وآجلاً .