معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَآۚ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّن طِينٖ لَّازِبِۭ} (11)

قوله تعالى { فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا } يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاستفته يا محمد هؤلاء المشركين الذين ينكرون المبعث والنشور ، وسلهم أهم أشد خلقا أو أقوى أجسادا وعزما أم من خلقنا ؟ وفي قراءة عبد الله بن مسعود( أهم أشد خلقا أم من عددنا ) ، و{ أم من خلقنا } أي السموات والأرض والجبال ، وقد أجاب الله سبحانه وتعالى المشركين بقوله { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } . . . الآية ، وعن السدي أنه قال في { فاستفتهم أهم أشد خلقا } يعني المشركين ، { أهم أشد خلقا أم من خلقنا } .

وقوله :{ أنا خلقناهم من طين لازب } أي من طين لاصق ، وإنما وصفه جل ثناؤه باللزوب لأنه تراب مخلوط بماء ، وكذلك خلق آدم من تراب وماء ونار وهواء ، والتراب إذا خلط بماء صار طينا لازبا ، وعن ابن عباس في قوله :{ من طين لازب } قال : هو الطين الحر الجيد اللزج ، وقال في موضع آخر :{ من طين لازب } ملتصق ، وقال : { من طين لازب } من التراب والماء فيصير طينا يلزق . أما ابن زيد فقال : اللازب هو الذي يلتصق كأنه غراء .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَآۚ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّن طِينٖ لَّازِبِۭ} (11)

{ فاستفتهم } فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبني آدم . { أهم أشد خلقا أم من خلقنا } يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب . و { من } لتغليب العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك . وقراءة من قرأ " أم من عددنا " ، وقوله : { إنا خلقناهم من طين لازب } فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود ، وإن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء ، وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد ، وقد علموا أن الإنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة ، فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك ، وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولا وقدرته ذاتية لا تتغير .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَآۚ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّن طِينٖ لَّازِبِۭ} (11)

الفاء تفريع على قوله : { إنَّا زيَّنا السَّماء الدنيا بزينةٍ الكواكب } [ الصافات : 6 ] باعتبار ما يقتضيه من عظيم القدرة على الإِنشاء ، أي فسَلْهُم عن إنكارهم البعث وإحالتِهم إعادةَ خلقهم بعد أن يصيروا عظاماً ورفاتاً ، أخَلْقُهم حينئذٍ أشدّ علينا أم خلق تلك المخلوقات العظيمة ؟ .

وضمير الغيبة في قوله : { فَاستفتِهِم } عائد إلى غير مذكور للعلم به من دلالة المقام وهم الذين أحالوا إعادة الخلق بعد الممات . وكذلك ضمائر الغيبة الآتية بعده وضمير الخطاب منه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي فسَلْهم ، وهو سؤال محاجة وتغليط .

والاستفتاء : طلب الفَتوى بفتح الفاء وبالواو ، ويقال : الفُتْيَا بضم الفاء وبالياء . وهي إخبار عن أمر يخفَى عن غير الخواصّ في غرض مَّا . وهي :

إمّا إخبار عن علم مختص به المخبِر قال تعالى : { يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات } [ يوسف : 46 ] الآية ، وقال : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } [ النساء : 176 ] ، وتقدم في قوله : { الذي فيه تستفتيان } في سورة [ يوسف : 41 ] .

وإمَّا إخبار عن رأي يطلب من ذي رأي موثوق به ومنه قوله تعالى : { قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } في سورة [ النمل : 32 ] .

والمعنى : فاسألهم عن رأيهم فلما كان المسؤول عنه أمراً محتاجاً إلى إعمال نظر أطلق على الاستفهام عنه فعل الاستفتاء .

وهمزة : { أهُم أشدُّ خَلْقاً } للاستفهام المستعمل للتقرير بضعف خلق البشر بالنسبة للمخلوقات السماوية لأن الاستفهام يؤول إلى الإقرار حيث إنه يُلجىء المستفهم إلى الإِقرار بالمقصود من طرفي الاستفهام ، فالاستفتاء في معنى الاستفهام فهو يستعمل في كل ما يستعمل فيه الاستفهام . و { أشدّ } بمعنى : أصعب وأعسر .

و { خَلْقاً } تمييز ، أي أخلقهم أشدّ أم خَلْق من خلقنا الذي سمعتم وصفه .

والمراد ب { مَن خَلَقْنا } ما خَلَقَه الله من السماوات والأرض وما بينهما الشامل للملائكة والشياطين والكواكب المذكورة آنفاً بقرينة إيراد فاء التعقيب بعد ذكر ذلك ، وهذا كقوله تعالى : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } [ النازعات : 27 ] ونحوه .

وجيء باسم العاقل وهو { مَن } الموصولة تغليباً للعاقلين من المخلوقات .

وجملة { إنا خلقناهم من طين لازب } في موضع العلة لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله : { أهم أشد خلقاً أم من خلقنا } من الإِقرار بأنهم أضعف خلقاً من خلق السماوات وعوالمها احتجاجاً عليهم بأن تأتِّي خلقهم بعد الفناء أهون من تَأتي المخلوقات العظيمة المذكورة آنفاً ولم تكن مخلوقة قبلُ فإنهم خلقوا من طين لأن أصلهم وهو آدم خلق من طين كما هو مقرر لدى جميع البشر فكيف يحيلون البعث بمقالاتهم التي منها قولُهم : { أإذَا مِتنا وكنا تُراباً وعِظاماً أءِنَّا لَمَبْعُوثونَ } [ الصافات : 16 ] .

والطينُ : التراب المخلوط بالماء .

واللازب : اللاصق بغيره ومنه أطلق على الأمر الواجب « لازب » في قول النابغة :

ولا يحسبون الشر ضَربةَ لازب

وقد قيل : إن باء لازب بدل من ميم لازم ، والمعنى : أنه طين عتيق صار حَمْأة . وضمير { إنَّا خلقناهُم } عائد إلى المشركين وهو على حذف مضاف ، أي خلقنا أصلهم وهو آدم فإنه الذي خلق من طين لازب ، فإذا كان أصلهم قد أنشىء من تراب فكيف ينكرون إمكان إعادة كل آدمي من تراب .