{ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير . الذي خلق الموت والحياة } قال عطاء ، عن ابن عباس : يريد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة . وقال قتادة : أراد موت الإنسان وحياته في الدنيا ، جعل الله الدنيا دار حياة وفناء ، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء . قيل : إنما قدم الموت لأنه إلى القهر أقرب : وقيل : قدمه لأنه أقدم ، لأن الأشياء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوهما ، ثم طرأ عليها الحياة . وقال ابن عباس : خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس بلقاء أنثى ، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها ، لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي ، وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها فألقى على العجل فحيي . { ليبلوكم } فيما بين الحياة إلى الموت ، { أيكم أحسن عملاً } وروي عن ابن عمر مرفوعاً : " أحسن عملاً أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله " . وقال الفضيل بن عياض { أحسن عملاً } أخلصه وأصوبه ، وقال : العمل لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً ، فالخالص : إذا كان لله ، والصواب : إذا كان على السنة . وقال الحسن : أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها . وقال الفراء : لم توقع البلوى على أي إلا وبينهما إضمار ، كما تقول بلوتكم لأنظر أيكم أطوع . ومثله : { سلهم أيهم بذلك زعيم }( القلم- 40 ) أي : سلهم وانظر أيهم ، فأي : رفع على الابتداء وأحسن خبره ، { وهو العزيز } في انتقامه ممن عصاه ، { الغفور } لمن تاب إليه .
الذي خلق الموت والحياة ، قدرهما أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدره ، وقدم الموت لقوله :( وكنتم أمواتا فأحياكم ) ، ولأنه أدعى إلى حسن العمل ، ليبلوكم ليعاملكم المختبر بالتكليف أيها المكلفون ، أيكم أحسن عملا ، أصوبه وأخلصه ، وجاء مرفوعا ، أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعته ، جملة واقعة موقع المفعول ثانيا لفعل البلوى المتضمن معنى العلم . وليس هذا من باب التعليق ، لأنه يخل به وقوع الجملة خبرا لما يعلق الفعل عنها ، بخلاف ما إذا وقعت موقع المفعولين . وهو العزيز ، الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل ، الغفور لمن تاب منهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الذي خلق الموت والحياة} فيميت الأحياء ويحيى الموتى...
{وهو العزيز} في ملكه، وفي نقمته لمن عصاه.
قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.
القاضي عياض: قال أبو مصعب: كان مالك يطيل الركوع والسجود في ورده، وإذا وقف في الصلاة كأنه خشبة يابسة لا يتحرك منه شيء، فلما فرغ قيل له: لو خففت من هذا قليلا؟ فقال: ما ينبغي لأحد يعمل لله عملا إلا حسنه، والله تعالى يقول: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"الّذِي خَلَقَ الموت والْحَياةَ"، فأمات من شاء وما شاء، وأحيا من أراد وما أراد، إلى أجل معلوم.
"لِيَبْلُوَكُمْ أيّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً ": ليختبركم فينظر أيكم له -أيها الناس- أطوع، وإلى طلب رضاه أسرع. عن قتادة، في قوله: "الّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَياةَ" قال: أذلّ الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء. "وَهُوَ العَزِيزُ ": وهو القويّ الشديد انتقامه ممن عصاه، وخالف أمره.
"الغَفُورُ": ذنوب من أناب إليه وتاب من ذنوبه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... خلقهما [الموت والحياة] جميعا للابتلاء، لأن الله تعالى خلق الموت على غاية ما تكرهه الأنفس، وتنفر عنه، وخلق الحياة على غاية ما تتلذذ به الأنفس، وترغب فيها، والمحنة في الترغيب والترهيب. فثبت أن خلق الموت محنة، فيكون قوله تعالى: {خلق الموت والحياة} كأنه يقول: خلق الموت مرهبا، وخلق الحياة مرغبة.
{أيكم أحسن عملا} أي ليبلوكم أيكم أرهب من الشر وأرغب في الخير.
ثم الموت مما لا مهرب منه لأحد ولا مخلص لمخلوق، وكذلك الحياة، وإن كانت من أرغب الأشياء إلى الأنفس، فليست هي بحيث يتهيأ للمرء أن يزيد منها بالطلب، ولا مما يوجد بالكد والسعي، فصارت هي مرغبة في الحياة الدائمة، وهي نعيم الآخرة، وصار الموت مرهبا من الموت الدائم، والموت الدائم هو العذاب الدائم الذي لا ينقطع، كما قال تعالى: {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} [إبراهيم: 17] أي لا تنقضي عنه الآلام والأوجاع، بل يبقى فيها أبدا. وإذا ثبت أن الموت صار مرهبا من العذاب الدائم، والحياة صارت مرغبة في مثلها، فيقوم يطلبها. ووجب القول بالبعث أيضا؛ إذ الراغب إنما يصل إلى ما يرغب فيه بالبعث، والآخر إنما يصير إلى العذاب الدائم بالبعث. وفيه إيجاب القول بالرسالة، لأنه إذا ثبتت الرغبة في الموعود من الثواب والرهبة من العذاب، وهما جميعا غائبان، فاحتيج إلى من يظهرهما، ويخبر عنهما، فلم يكن بد من رسول، يخبرهم، ويحضر علمه لهم.
ثم الأصل في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} أنه يحسن عمله بحسن رغبته، ويسوء عمله بسوء رغبته ورهبته. فخلق الحياة والموت ليتفكر فيهما المرء ويعتبر بهما، فمن حسنت رغبته ورهبته حسن عمله، ومن لم يتفكر فيهما، ولم يعتبر بهما ساء عمله. فالموت والحياة أنشئا مرغبين ومرهبين، وكذلك الدنيا وما فيها أنشئت دلالة على طريق الآخرة: فالسمع يدل على السمع، والبصر على البصر، وآلامها تدل على آلام الآخرة، ونعيمها دليل على نعيم الآخرة، والله أعلم.
{ليبلوكم أيكم أحسن عملا} فيه دليل على إضمار قوله: وأيكم أسوء عملا على مقابلة الأول، إلا أنه اكتفى بذكر أحد المتقابلين عن الآخر، والله أعلم.
فإن قال قائل كيف أضاف الابتلاء إلى نفسه بقوله: {ليبلوكم} والابتلاء في الشاهد لاستظهار ما خفي ولاستحضار ما غاب، والله تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه أمر، فكيف أضيف إليه الابتلاء؟ فجوابه في وجهين:
أحدهما: أن يقول: إن الابتلاء في الحقيقة كناية عما به ظهور الشيء وبروزه، فاستعمل الابتلاء في كل ما فيه ظهور الأمر، وإن كان الذي ظهر من الأمر عند المبتلى ظاهرا، وهذا كما أضيف الاستدراج والمكر إلى الله تعالى لوجود معنى المكر والاستدراج فيه، وإن لم يكن المقصود من ذلك المكر والاستدراج. وفي الشاهد أن تحسن إلى عدو ليقع عنده أنك تركت عداوته، فيغتر بإحسانك إليه، ثم تأخذه من وجه أمنه ومن حيث لا يشعر. هذا هو معنى المكر في الشاهد، وقد وجد الإحسان من الله تعالى إلى أعدائه، ووجد منهم الاغترار بالنعم، ووقع عندهم أنهم من جملة أوليائه، ثم أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، فوجد معنى المكر، وإن لم يقصد بإحسانه إليهم المكر بهم.
والثاني: من أمر في الشاهد فإنما يأمر لمنفعة تصل إليه، وإذا نهى عن شيء فإنما ينهى لنفي مضرة تصل إليه. والله تعالى لم يأمر الخلق، ولم ينههم لمنفعة يجلبها إلى نفسه أو لمضرة يدفعها عن نفسه، وإنما أمرهم، ونهاهم لمنافع ترجع إليهم ومضار تلحقهم. ثم أضيف [الأمر] والنهي، وإن كان لا منفعة له ولا مضرة عليه. فلذلك ابتلى خلقه ليظهر للمبتلى عداوته وولايته، وأضاف الابتلاء إلى نفسه، وإن كان هو مستغنيا عن الابتلاء، والله أعلم.
{وهو العزيز الغفور} فيه إبانة أنه لم يبتلنا لمنفعة أو أمر يرجع إليه أو لذل يدفع عنه، ولكن لعز يحرزه الممتحن إذا أحسن العمل، وذنوب تغفر له، وتستر عليه؛ وهو عزيز بذاته.
وجائز أن يكون قوله {وهو العزيز} أي القوي على الانتقام ممن ساء عمله، واختار عداوته.
{الغفور} الستور على من حسن عمله، يستر عليه ذنبه، ويجزيه بحسن عمله، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المعنى: خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون {لِيَبْلُوَكُمْ}، وسمى علم الواقع منهم باختيارهم «بلوى»، وهي الخبرة، استعارة من فعل المختبر. ونحوه قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ} [محمد: 31]...
والمراد: أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وتستمكنون منه، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، لأن وراءه البعث والجزاء الذي لا بد منه. وقدم الموت على الحياة، لأنّ أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم.
ذكروا في تفسير {أحسن عملا} وجوها:
(أحدها): أن يكون أخلص الأعمال وأصوبها لأن العمل إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل، وكذلك إذا كان صوابا غير خالص، فالخالص أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السنة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر الدال على القدرة أتبعه غايته، وهو الحكم الذي هو خاصة الملوك فقال تعالى: {ليبلوكم} أي يعاملكم وهو أعلم بكم من أنفسكم معاملة المختبر لإظهار ما عندكم من العمل بالاختيار.
{أيكم أحسن عملاً} أي من جهة العمل، أي عمله أحسن من عمل غيره، وعبارة القرآن في إسناد الحسن إلى الإنسان تدل على أن من كان عمله أحسن كان هو أحسن، ولو أنه أبشع الناس منظراً، ومن كان عمله أسوأ كان بخلاف ذلك، والحسن إنما يدرك بالشرع، فما حسنه الشرع فهو الحسن وما قبحه فهو القبيح، وكان ذلك مفيداً للقيام بالطاعة، لأن من تفكر في حاله علم أنه مباين لبقية الحيوانات بعقله وللنباتات بحياته، وللجمادات بنموه، وأن ذلك ليس له من ذاته بدليل موته، فما كان له ذلك إلا بفاعل مختار، له الحياة من ذاته، فيجتهد في رضاه باتباع رسله إن كان عاقلاً، فيشكره إذا أنعم، ويصبر إن امتحن وانتقم، ويخدمه بما أمر، وينزجر عما عنه زجره، فهذه الآية مشتملة على وجود المقتضي للسعادة وانتفاء المانع منها، ووجود المقتضي إعداد وإرشاد، فالإعداد إعانته سبحانه للعبد بإعداده لقبول السعادة، كالحداد يلين الحديد بالنار ليقبل أن يكون سكيناً، والإرشاد أخذه بالناصية إلى ما أعد له كالضرب بالسكين وإصلاحها للقطع بها، وانتفاء المانع هو الموقف عن ذلك وهو دفع المشوشات والمفسدات كتثلم السكين وهو يجري مجرى السبب وسبب السبب... فذكره لتمام القدرة والعزة مع ذكر الأحسن دال على توفيقه بما ذكر، ومن تأمل الآية عرف أنه ما خلق إلا ليتميز جوهره من صدق غيره أو صدقه من جوهر غيره، وأن الدنيا مزرعة، وأن الآخرة محصدة، فيصير من نفسه على بصيرة، وثارت إرادته لما خلق له تارة بالنظر إلى جمال ربه من حسن وإحسان، وأخرى إلى جلاله من قدرة وإمكان، وتارة بالنظر لنفسه بالشفقة عليها من خزي الحرمان، فيجتهد في رضا ربه وصلاح نفسه، خوفاً من عاقبة هذه البلوى.
ولما كان لا يغفل الابتلاء منا إلا جاهل بالعواقب، وعاجز عن رد المسيء عن إساءته، وجعله محسناً من أول نشأته، قال نافياً لذلك عن منيع جنابه، بعد أن نفاه بلطيف تدبيره وعظيم أمره في خلق الموت والحياة، ومزيلاً بوصف العزة لما قد يقوله من يكون قوي الهمة: أنا لا أحتاج إلى تعب كبير في الوصول إليه سبحانه بل أصل إليه أي وقت شئت بأيسر سعي {وهو} أي والحال أنه وحده {العزيز} أي الذي يصعب الوصول إليه جداً، من العزاز وهو المكان الوعر و الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، فلو أراد جعل الكل محسنين، ولا يكون كذلك إلا وهو تام القدرة فيلزم تمام العلم والوحدانية ووجوب الوجود أزلاً وأبداً.
ولما كان العزيز منا يهلك كل من خالفه إذا علم مخالفته، قال مبيناً إمهاله للعصاة مرغباً للمسيء في التوبة، بعد ترهيبه من الإصرار على الحوبة، لأنه قد يكون مزدرئاً لنفسه قائلاً: إن مثلي لا يصلح للخدمة لما لي من الذنوب القاطعة وأين التراب من رب الأرباب {الغفور} أي أنه مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك، ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق، كما قال تعالى في الحديث القدسي: "ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور).. ومن آثار تمكنه المطلق من الملك وتصريفه له، وآثار قدرته على كل شيء وطلاقة إرادته.. أنه خلق الموت والحياة. والموت يشمل الموت السابق على الحياة والموت اللاحق لها. والحياة تشمل الحياة الأولى والحياة الآخرة. وكلها من خلق الله كما تقرر هذه الآية، التي تنشئ هذه الحقيقة في التصور الإنساني؛ وتثير إلى جانبها اليقظة لما وراءها من قصد وابتلاء. فليست المسألة مصادفة بلا تدبير. وليست كذلك جزافا بلا غاية. إنما هو الابتلاء لإظهار المكنون في علم الله من سلوك الأناسي على الأرض، واستحقاقهم للجزاء على العمل.
(ليبلوكم أيكم أحسن عملا).. واستقرار هذه الحقيقة في الضمير يدعه أبدا يقظا حذرا متلفتا واعيا للصغيرة والكبيرة في النية المستترة والعمل الظاهر. ولا يدعه يغفل أو يلهو. كذلك لا يدعه يطمئن أو يستريح.
ومن ثم يجيء التعقيب: (وهو العزيز الغفور) ليسكب الطمأنينة في القلب الذي يرعى الله ويخشاه. فالله عزيز غالب ولكنه غفور مسامح. فإذا استيقظ القلب، وشعر أنه هنا للابتلاء والاختبار، وحذر وتوقى، فإن له أن يطمئن إلى غفران الله ورحمته وأن يقر عندها ويستريح!
إن الله في الحقيقة التي يصورها الإسلام لتستقر في القلوب، لا يطارد البشر، ولا يعنتهم، ولا يحب أن يعذبهم. إنما يريد لهم أن يتيقظوا لغاية وجودهم؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى حقيقتهم؛ وأن يحققوا تكريم الله لهم بنفخة روحه في هذا الكيان وتفضيله على كثير من خلقه. فإذا تم لهم هذا فهناك الرحمة السابغة والعون الكبير والسماحة الواسعة والعفو عن كثير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتحت السورة بما يدل على منتهى كمال الله تعالى افتتاحاً يؤذن بأن ما حَوتْه يحوم حول تنزيه الله تعالى عن النقص الذي افتراه المشركون لمّا نسبوا إليه شركاء في الربوبية والتصرف معه والتعطيل لبعض مراده. ففي هذا الافتتاح براعة الاستهلال كما تقدم في طالع سورة الفرقان.
وفعل {تَبَاركَ} يدل على المبالغة في وفرة الخير، وهو في مقام الثناء يقتضي العموم بالقرينة، أي يفيد أن كل وفرة من الكمال ثابتة لله تعالى بحيث لا يتخلف نوع منها عن أن يكون صفة له تعالى.
وصيغة تفاعَل إذا أسندت إلى واحد تدل على تكلف فعل ما اشتقت منه نحو تَطاول وتغابن، وترد كناية عن قوة الفعل وشدته مثل: تواصل الحبل.
وهو مشتق من البَركة، وهي زيادة الخير ووفرته، وتقدمت البركة عند قوله تعالى: {وبركات عليك} في [سورة هود: 48].
وتقدم {تَبَارَكَ} عند قوله تعالى: {تبارك الله رب العالمين} في أول [الأعراف: 54].
وهذا الكلام يجوز أن يكون مراداً به مجرد الإخبار عن عظمة الله تعالى وكماله ويجوز أن يكون مع ذلك إنشاء ثناء على الله أثناه على نفسه، وتعليماً للناس كيف يثنون على الله ويحمدونه كما في {الحمد لله ربَ العالمين} [الفاتحة: 2]: إمّا على وجه الكناية بالجملة عن إنشاء الثناء، وإمّا باستعمال الصيغة المشتركة بين الإخبار والإنشاء في معنييها، ولو صيغ بغير هذا الأسلوب لما احتمل هاذين المعنيين، وقد تقدم في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1].
وجُعل المسندُ إليه اسمَ موصول للإِيذان بأن معنى الصلة، مما اشتهر به كما هو غالب أحوال الموصول فصارت الصلة مغنية عن الاسم العلم لاستوائهما في الاختصاص به إذ يعلم كل أحد أن الاختصاص بالملك الكامل المطلق ليس إلاّ لله.
وذكر {الذي بيده الملك} هنا نظير ذكر مثله عقب نظيره في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} إلى قوله: {الذي له ملك السماوات والأرض} [الفرقان: 1 2].
والباء في {بِيَدِهِ} يجوز أن تكون بمعنى (في) مثل الباء التي تدخل على أسماء الأمكنة نحو {ولقد نصركم الله ببدر} [آل عمران: 123] وقول امرء القيس:
فالظرفية هنا مجازية مستعملة في معنى إحاطة قدرته بحقيقة المُلك، والمُلك على هذا اسم للحالة التي يكون صاحبها مَلِكاً.
والتعريف في {المُلك} على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس، وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلاّ وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه.
واليَد على هذا الوجه استعارة للقدرة والتصرف كما في قوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47] وقول العرب: مَا لي بهذا الأمر يَدَان.
ويجوز أن تكون الباء للسببية، ويكون {المُلكُ} اسماً فيأتي في معناه ما قرر في الوجه المتقدم.
وتقديم المسند وهو {بِيَدِهِ} على المسند إليه لإفادة الاختصاص، أي الملك بيده لا بيد غيره.
وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بمُلك غيره، ولا بما يتراءى من إعطاء الخلفاء والملوك الأصقاع للأمراء والسلاطين وولاة العهد لأن كل ذلك مُلك غير تام لأنه لا يعمّ المملوكات كلها، ولأنه معرض للزوال، ومُلك الله هو الملك الحقيقي، قال: {فتعالى الله الملك الحق} [طه: 114].
فالناس يتوهمون أمثال ذلك مُلكاً وليس كما يتوهمون.
واليد: تمثيل بأن شبهت الهيئة المعقولة المركبة من التصرف المطلق في الممكنات الموجودة والمعدومة بالإمداد والتغيير والإعدام والإيجاد؛ بهيئة إمساك اليد بالشيء المملوك تشبيه معقول بمحسوس في المركبات.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} في [سورة آل عمران: 26].
و {المُلك} بضم الميم: اسم لأكمل أحوال المِلك بكسر الميم، والمِلك بالكسر جنس للمُلك بالضم، وفسر المُلك المضموم بضبط الشيء المتصرَّف فيه بالحُكم، وهو تفسير قاصر، وأرى أن يُفسر بأنه تصرف في طائفة من الناس ووطنهم تصرفاً كاملاً بتدبير ورعاية، فكل مُلك (بالضم) مِلك (بالكسر) وليس كل مِلك مُلكاً.
وقد تقدم في قوله: {مَلِك يوم الدين} في [الفاتحة: 4] وعند قوله: {أنّى يكون له الملك علينا} في [سورة البقرة: 247]، وجملة: {وهو على كل شيء قدير} معطوفة على جملة: {بِيده المُلك} التي هي صلة الموصول وهي تعميم بعد تخصيص لتكميل المقصود من الصلة، إذ أفادت الصلة عموم تصرفه في الموجودات، وأفادت هذه عموم تصرفه في الموجودات والمعدومات بالإعدام للموجودات والإيجاد للمعدومات، فيكون قوله: {وهو على كل شيء قدير} مفيداً معنى آخر غير ما أفاده قوله: {بيده الملك} تفادياً من أن يكون معناه تأكيداً لمعنى {بيده الملك} وتكون هذه الجملة تتميماً للصلة. وفي معنى صلة ثانية ثمّ عطفت ولم يكرر فيها اسم موصول بخلاف قوله: {الذي خلق الموت} [الملك: 2] وقوله: {الذي خلق سبع سموات} [الملك: 3].
و {شيء} ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وهذا هو الإطلاق الأصلي في اللغة. وقد يطلق (الشيء) على خصوص الموجود بحسب دلالة القرائن والمقامات. وأما التزام الأشاعرة: أن الشيء لا يطلق إلاّ على الموجود فهو التزام ما لا يلزم دعا إليه سد باب الحجاج مع المعتزلة في أن الوجود عين الموجود أو زائد على الموجود، فتفرعت عليه مسألة: أن المعدوم شيء عند جمهور المعتزلة وأن الشيء لا يطلق إلاّ على الموجود عند الأشعري وبعض المعتزلة وهي مسألة لا طائل تحتها، والخلاف فيها لفظي، والحق أنها مبنية على الاصطلاح في مسائل علم الكلام لا على تحقيق المعنى في اللغة.
وتقديم المجرور في قوله: {على كل شيء قدير} للاهتمام بما فيه من التعميم، ولإبطال دعوى المشركين نسبتهم الإلهية لأصنامهم مع اعترافهم بأنها لا تقدر على خلق السموات والأرض ولا على الإحياء والإماتة
صفة ل {الذي بيده الملك} [الملك: 1] فلما شمل قوله: {وهو على كل شيء قدير} [الملك: 1] تعلق القدرة بالموجود والمعدوم أتبع بوصفه تعالى بالتصرف الذي منه خلق المخلوقات وأعراضِها لأن الخلق أعظم تعلق القدرةِ بالمقدور لدلالته على صفة القدرة وعلى صفة العلم.
وأوثر بالذكر من المخلوقات الموتُ والحياة لأنهما أعظم العوارض لجنس الحيوان الذي هو أعجب الموجود على الأرض والذي الإنسان نوع منه، وهو المقصود بالمخاطبة بالشرائع والمواعظ، فالإماتة تصرف في الموجود بإعداده للفناء، والإحياء تصرف في المعدوم بإيجاده ثم إعطائه الحياة ليستكمل وجود نوعه.
فليس ذكر خلق الموت والحياة تفصيلاً لمعنى المُلك بل هو وصف مستقل.
والاقتصار على خلق الموت والحياة لأنهما حالتان هما مظهرا تعلق القدرة بالمقدور في الذاتتِ والعرض لأن الموت والحياة عرضان والإنسان معروض لهما.
والعَرَض لا يقوم بنفسه فلما ذُكر خلق العَرَض علم من ذكره خَلْق معروضه بدلالة الاقتضاء.
وأوثر ذكر الموت والحياة لِما يدلان عليه من العبرة بتداول العرضين المتضاديْن على معروض واحد، وللدلالة على كمال صنع الصانع، فالموت والحياة عرضان يعرضان للموجود من الحيوان، والموتُ يُعِد الموجود للفناء والحياة تُعِد الموجود للعمل للبقاء مدة. وهما عند المتكلمين من الأعراض المختصة بالحي، وعند الحكماء من مقولة الكيف ومن قسم الكيفيات النفسانية منه.
فالحياة: قوة تَتْبَع اعتدالَ المزاج النوعي لتَفيضَ منها سائر القوى.
و {الموت}: كيفية عدمية هو عدم الحياة عما شأنه أن يوصف بالحياة أو الموت، أي زوال الحياة عن الحي، فبين الحياة والموت تقابُلُ العَدَم والمَلَكة.
ومعنى خلق الحياة: خلق الحي لأن قوام الحي هو الحياة، ففي خَلقه خلقُ ما به قوامه، وأما معنى {خلق الموت} فإيجاد أسبابه وإلاّ فإن الموت عدم لا يتعلق به الخلق بالمعنى الحقيقي، ولكنه لما كان عرضاً للمخلوق عبّر عن حصوله بالخَلق تبعاً كما في قوله تعالى: {والله خلقكم وما تَعْمَلون} [الصافات: 96].
وأيضاً لأن الموت تصرف في الموجود القادر الذي من شأنه أن يدفع عن نفسه ما يكرهه. والموت مكروه لكل حي فكانت الإماتة مظهراً عظيماً من مظاهر القدرة لأن فيها تجلي وصْف القاهِر.
فأما الإِحياء فهو من مظاهر وصف القادر ولكن مع وصفه المنعم.
فمعنى القدرة في الإِماتة أظهر وأقوى لأن القهر ضرب من القدرة.
ومعنى القدرة في الإِحياء خفي بسبب أمرين بدقة الصنع وذلك من آثار صفة العلم، وبنعمة كمال الجنس وذلك من آثار صفة الإِنعام. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} [سورة البقرة: 28].
وفي ذكرهما تخلص إلى ما يترتب عليهما من الآثار التي أعظمها العملُ في الحياة والجزاءُ عليه بعد الموت، وذلك ما تضمنه قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} فإن معنى الابتلاء مشعر بترتب أثر له وهو الجزاء على العمل للتذكير بحكمة جعل هذين الناموسين البديعين في الحيوان لتظهر حكمة خلق الإنسان ويُفضِيا به إلى الوجود الخالد، كما أشار إليه قوله تعالى:
{أفحسبتم أنما خلقناكم عَبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115].
وهذا التعليل من قبيل الإِدماج.
وفيه استدلال على الوحدانية بدلالة في أنفسهم قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21].
والمعنى: أنه خلق الموت والحياة ليكون منكم أحياء يعملون الصالحات والسيئات، ثم أمواتاً يَخلُصون إلى يوم الجزاء فيجزون على أعمالهم بما يناسبها.
فالتعريف في {الموتَ} و {والحياة} تعريف الجنس. وفي الكلام تقديرُ: هو الذي خلق الموت والحياة لتحيَوا فيبلوكم أيكم أحسن عملاً، وتموتوا فتُجزوا على حسب تلك البلوى، ولكون هذا هو المقصود الأهم من هذا الكلام قدم الموت على الحياة.
وجملة {ليبلوكم} إلى آخرها معترضة بين الموصولين.
واللام في {ليبلوكم} لام التعليل، أي في خلق الموت والحياة حكمة أن يبلوكم. الخ.
وتعليل فعل بعلةٍ لا يقتضي انحصار علله في العلة المذكورة فإن الفعل الواحد تكون له علل متعددة فيذكر منها ما يستدعيه المقامَ، فقوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} تعليلٌ لفعل {خَلَقَ} باعتبار المعطوف على مفعوله، وهو {والحياة} لأن حياة الإِنسان حياة خاصة تصحح للموصوف بمن قامت به الإدراك الخاص الذي يندفع به إلى العمل باختياره، وذلك العمل هو الذي يوصف بالحسن والقبح، وهو ما دل عليه بالمنطوق والمفهوم قوله تعالى: {أيكم أحسن عملاً} أي وأيكم أقبح عملاً.
ولذلك فذكر خلق الموت إتمام للاستدلال على دقيق الصنع الإلهي وهو المسوق له الكلام، وذكر خلق الحياة إدماج للتذكير، وهو من أغراض السورة.
ولا أشك في أن بناء هذا العالم على ناموس الموت والحياة له حكمة عظيمة يعسر على الأفهام الاطلاع عليها.
والبلوى: الاختبار وهي هنا مستعارة للعلم، أي ليعلم علم ظَهورٍ أو مستعارةٌ لإظهار الأمر الخفي، فجعل إظهار الشيء الخفي شبيهاً بالاختبار.
وجملة {أيكم أحسن عملاً} مرتبطة ب {يبلوكم}.
و (أيُّ) اسم استفهام ورفعه يعيّن أنه مبتدأ وأنه غير معمول للفظٍ قبله فوجب بيان موقع هذه الجملة، وفيه وجهان:
أحدهما قول الفراء والزجاج والزمخشري في تفسير أول سورة هود أن جملة الاستفهام سادة مَسدَّ المفعول الثاني، وأن فعل {يبلوكم} المضمن معنى (يَعْلَمكم) معلق عن العمل في المفعول الثاني، وليس وجود المفعول الأول مانعاً من تعليق الفعل عن العمل في المفعول الثاني وإن لم يكن كثيراً في الكلام.
الوجه الثاني أن تكون الجملة واقعة في محل المفعول الثاني {ليبلوكم} أي تؤول الجملة بمعنى مفردٍ تقديره: ليعلمكم أهذا الفريق أحسنُ عملاً أم الفريقُ الآخر..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كما أنّ الجدير بالملاحظة في قوله «أحسن عملا» هو التأكيد على جانب (حسن العمل)، ولم تؤكّد الآية على كثرته، وهذا دليل على أنّ الإسلام يعير اهتماما (للكيفية) لا (للكميّة)، فالمهمّ أن يكون العمل خالصاً لوجهه الكريم، ونافعاً للجميع حتّى ولو كان محدود الكمية...