الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ} (2)

وقوله سبحانه : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } الآية ، الموتُ والحياةُ مَعْنَيَانِ يَتَعَاقَبَانِ جِسْمَ الحيوانِ ، يَرْتَفِعُ أحدهما بحلُولِ الآخَرِ ، وما جاء في الحديثِ الصحيحِ من قولهِ عليه الصلاة والسلام : " يُؤتَى بِالمَوْتِ يَوْمَ القِيَامَةِ في صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ " الحديث ، فقال أهْلُ العِلْمِ : إنَّما ذَلِكَ تِمْثَالُ كَبْشٍ يُوقِعُ اللَّهُ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ لأَهْلِ الدَّارَيْنِ أَنَّه الموتُ الذي ذَاقُوه في الدنيا ، ويكونُ ذلك التمثالُ حَامِلاً للموتِ ، لاَ عَلى أنه يَحُلُّ الموتُ فيه فَتَذْهَبُ عنهُ حياةٌ ، ثم يَقْرِنُ اللَّه تعالى في ذلك التمثالِ إعْدَامَ الموتِ .

وقوله سبحانه : { لِيَبْلُوَكُمْ } أي : جَعَلَ لَكُمْ هاتينِ الحالتَيْنِ ( ليبلوَكم ) أي : ليختبرَكم في حالِ الحياةِ ويُجَازِيكُم بَعْدَ الممات ، وقال أبو قتادة ، ونحوه عن ابن عمر ، قلت : يا رسول اللَّه ، مَا مَعْنى قولِه تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ؟ فَقَال : " يقول : أَيُّكُمْ أحْسَنُ عَقلاً ، وأشَدُّكم للَّهِ خَوْفاً ، وأحْسَنُكم في أمْرِه ونهيهِ نَظَراً ، وإن كَانُوا أقلَّكم تطوُّعاً " ، وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أزْهَدُكُمْ في الدنيا ، قال القرطبي : وقال السدي : ( أحْسَنُكُمْ عَمَلاً ) ، أي : أكثَركم للموت ذِكْراً ، وله أحْسَنُ استعداداً ، ومِنْه أشَدُّ خوفاً وحذَراً ، انتهى من «التذكرة » ، وللَّه در القائل :

وَفِي ذِكْرِ هَوْلِ المَوْتِ وَالقَبْرِ والبلى *** عَنِ الشُّغْلِ باللَّذَّاتِ لِلْمَرْءِ زَاجِرُ

أَبَعْدَ اقتراب الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصٌ *** وَشَيْبٌ فَذَاكَ مُنْذِرٌ لَكَ ذَاعِرُ

فَكَمْ في بُطُونِ الأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهَا *** مَحَاسِنُهُمْ فِيهَا بَوَالٍ دَوَاثِرُ

وَأَنْتَ عَلَى الدّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِس *** لِخُطَّابِهَا فِيهَا حَرِيصٌ مُكَاثِرُ

على خَطَرٍ تُمْسِي وَتُصْبِحُ لاَهِياً *** أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ

وَإنَّ امرأ يسعى لِدُنْيَاه جَاهِداً *** وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لاَ شَكَّ خَاسِرُ

كَأَنَّكَ مُغْتَرٌّ بِمَا أَنْتَ صَائِرٌ *** لِنَفْسِكَ عَمْداً أوْ عَنِ الرُّشْدِ جَائِرُ

فَجِدَّ وَلاَ تَغْفُلْ فَعَيْشُكَ زَائِلٌ *** وَأَنْتَ إلى دَارِ المَنِيَّةِ صَائِرُ

وَلاَ تَطْلُبِ الدُّنْيَا فَإنَّ طِلاَبَهَا *** وَإنْ نِلْتَ مِنْهَا ثَرْوَةً لَكَ ضَائِرُ

وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ *** بِمَوْقِفِ عَدْلٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

لَقَدْ خَضَعَتْ واستسلمت وَتَضَاءَلَتْ *** لِعِزَّةِ ذِي العَرْشِ المُلُوكُ الجَبَابِرُ

انتهى .