فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ} (2)

{ الذي خَلَقَ الموت والحياة } الموت : انقطاع تعلق الرّوح بالبدن ومفارقته له ، والحياة تعلق الرّوح بالبدن واتصاله به . وقيل : هي ما يصح بوجوده الإحساس . وقيل : ما يوجب كون الشيء حياً . وقيل : المراد الموت في الدنيا ، والحياة في الآخرة . وقدّم الموت على الحياة لأن أصل الأشياء عدم الحياة ، والحياة عارضة لها . وقيل : لأن الموت أقرب إلى القهر . وقال مقاتل : خلق الموت يعني : النطفة ، والمضغة والعلقة ، والحياة يعني : خلقه إنساناً ، وخلق الروح فيه ، وقيل : خلق الموت على صورة كبش لا يمرّ على شيء إلاّ مات ، وخلق الحياة على صورة فرس لا تمرّ بشيء إلاّ حيي ، قاله مقاتل والكلبي . وقد ورد في التنزيل : { قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت الذي وُكّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] وقوله : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة } [ الأنفال : 50 ] وقوله : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] ، وقوله : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] وغير ذلك من الآيات { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } اللام متعلقة بخلق : أي خلق الموت والحياة ليعاملكم معاملة من يختبركم أيكم أحسن عملاً ، فيجازيكم على ذلك . وقيل المعنى : ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكراً وأشدّ منه خوفاً ، وقيل : أيكم أسرع إلى طاعة الله ، وأورع عن محارم الله . وقال الزجاج : اللام متعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت . وقال الزجاج أيضاً والفراء : إن قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ } لم يقع على أيّ ، لأن فيما بين البلوى وأيّ إضمار فعل ، كما تقول : بلوتكم لأنظر أيكم أطوع ، ومثله قوله : { سَلْهُمْ أَيُّهُم بذلك زَعِيمٌ } [ القلم : 40 ] : أي سلهم ثم انظر أيهم ، فأيكم في الآية مبتدأ ، وخبره أحسن لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لجميع أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين { وَهُوَ العزيز } أي الغالب الذي لا يغالب { الغفور } لمن تاب وأناب .