فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ} (2)

{ الذي خلق الموت والحياة } الموت : انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته له ، والحياة تعلق الروح بالبدن واتصاله به ، وقيل : ما يوجب كون الشيء حيا ، وقيل : الموت صفة وجودية مضادة للحياة ، وقيل : المراد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة وفيه بعد ، وقدم الموت على الحياة لأن أصل الأشياء عدم الحياة ، والحياة عارضة لها ، وقيل : لأن الموت أقرب إلى القهر . وقال مقاتل : خلق الموت يعني النطفة والمضغة والعلقة ، والحياة يعني خلقه إنسانا وخلق فيه الروح ، وقيل : خلق الموت على صورة كبش لا يمر على شيء إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس لا يمر بشيء إلا حيى ، قاله مقاتل والكلبي . وقد ورد في التنزيل { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } وقوله : { إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } وقوله : { توفته رسلنا } وقوله : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } وغير ذلك من الآيات .

وقال النسفي : الحياة ما يصح بوجوده الإحساس ، والموت ضده ، ومعنى خلقهما إيجاد ذلك المصحح وإعدامه ، أي خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون .

{ ليبلوكم } أي ليعاملكم معاملة من يختبرهم ، وإلا فعلمه محيط بكل شيء ، قال الشهاب : الاختبار يقتضي عدم علم المختبر بالكسر بحال المختبر بالفتح ، فلهذا جعلوه استعارة تمثيلية أو تبعية ، على تشبيه حالهم في تكليفه تعالى لهم بتكاليفه ، وخلق الموت والحياة لهم ، وإثابته لهم وعقوبته بحال المختبر مع من اختبره وجربه لينظر طاعته وعصيانه فيكرمه أو يهينه .

{ أيكم أحسن عملا } فيجازيكم على ذلك ، وقيل : المعنى ليبلوكم ربكم أيكم أكثر ذكرا للموت وأحسن استعدادا وأشد منه خوفا ، وقيل : أيكم أحسن عقلا وأسرع إلى طاعة الله وأورع عن محارم الله ؛ وقيل : أخلص عملا وأصوبه ، والخالص إذا كان لله ، والصواب إذا كان على السنة ؛ وقيل : أزهد في الدنيا وأترك لها ؛ والعموم أولى .

قال الزجاج : اللام متعلقة بخلق الحياة لا بخلق الموت ، وقال الفراء : إن قوله { ليبلوكم } لم يقع على أي ، لأن فيما بين البلوى وأي إضمار فعل ، كما تقول بلوتكم لأنظر أيكم أطوع ، ومثله وقوله { سلهم أيهم بذلك زعيم } أي سلهم ثم أنظر أيهم ؛ فأيكم في الآية مبتدأ وخبره أحسن ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لجميع أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح ، لا إلى الحسن والأحسن ، فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين .

{ وهو العزيز } أي الغالب الذي لا يغالب ولا يعجزه من أساء العمل ، { الغفور } لمن تاب وأناب ، والستور الذي لا ييأس منه أهل الإساءة والزلل .