قوله : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } .
قيل : خَلَق الموت في الدنيا ، والحياة في الآخرة ، وقدم الموت على الحياة ، لأن الموت إلى القهر أقرب ، كما قدم البنات على البنين فقال : { يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً }[ الشورى : 49 ] .
وقيل : قدمه ؛ لأنه أقدم ، لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنُّطف والتراب ونحوه .
وقال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إنَّ اللَّه تعالى أذلَّ بَنِي آدَمَ بالموتِ ، وجَعلَ الدُّنْيَا دَار حياةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ ، وجَعَل الآخِرةَ دَارَ جزاءٍ ، ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ »{[57305]} .
وعن أبي الدَّرداء أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْلاَ ثلاثٌ ما طَأطَأ ابنُ آدَمَ رَأسهُ : الفَقْرُ ، والمَرَضُ والمَوتُ »{[57306]} .
وقيل : إنما قدم الموت على الحياة ؛ لأن من نصب الموت بين عينيه ، كان أقوى الدواعي له إلى العمل الصالح .
قال ابن الخطيب{[57307]} : قالوا : الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، واختلفوا في الموت .
فقيل : إنه عبارة عن عدم هذه الصفة ، وقال أصحابنا : إنه صفة وجودية مضادة للحياة ، واحتجوا بقوله تعالى : { الذي خَلَقَ الموت } والعدم لا يكون مخلوقاً ، وهذا هو التحقيق .
وروى الكلبي عن ابن عبَّاسٍ : أن الله - تعالى - خلق الموت في صورة كبش أملح ، لا يمر بشيء ، ولا يجد رائحته شيء إلاَّ مات ، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء ، فوق الحمار ودون البَغْل ، لا تمر بشيء ، ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي{[57308]} على ما سيأتي .
قال ابن الخطيب{[57309]} : وهذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل والتصوير ، وإلا فالتحقيق ما ذكرنا .
حكى ابنُ عباس ، والكلبي ومقاتلٌ : أن الموت والحياة يجسمان ، فالموت في هيئة كبْش لا يمر بشيء ، ولا يجد ريحه إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاءَ وهي التي كان جبريل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يركبونها ، خطوتُها أمدُ البصر ، فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء يجد ريحاً إلا يحيى ، ولا تطأ على شيء إلا حيي{[57310]} ، وهي التي أخذ السَّامري من أثرها ، فألقاها على العِجْل فحيي . حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس ، والماوردي{[57311]} معناه عن مقاتل والكلبي .
وعن مقاتل : «خَلَقَ المَوْتَ » يعني : النُّطفة والعلقة والمُضغة ، وخلق الحياة ، يعني خلق إنساناً ، ونفخ فيه الروح ، فصار إنساناً{[57312]} .
قال القرطبيُّ{[57313]} : وهذا حسن ، يدل عليه قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } .
قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ } . متعلق ب «خلق » .
وقوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } تقدم مثله في أول «هود » [ الآية 7 ] .
وقال الزمخشريُّ هنا{[57314]} : «فإن قلت : من أين تعلق قوله { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ، بفعل البلوى ؟ قلت : من حيث إنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملاً ، وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملاً أم هو ؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثَّاني من مفعوليه كما تقول : علمته هو أحسن عملاً ، فإن قلت : أتسمي هذا تعليقاً ؟ .
قلت : لا ، إنما التعليق أن يقع بعده ما يسد مسدَّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق ، ألا ترى أنه لا فرق بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الاستفهام وغير مصدر به ، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك : عَلِمْتُ أزيدٌ منطلق ، وعلمت زيداً منطلقاً » .
قال شهاب الدين{[57315]} : «وهذا الذي منع تسميته تعليقاً سماه به غيره ، ويجعلون تلك الجملة في محل ذلك الاسم الذي يتعدى إليه ذلك الفعل ، فيقولون في : " عَرفتُ أيُّهُمْ منطلقٌ " : إن الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافضِ ؛ لأن " نظر " يتعدى به » .
فصل في اللام في قوله : ليبلوكم
قال الزَّجَّاجُ{[57316]} : اللام في «لِيَبْلوَكُمْ » تتعلق بخلقِ الحياة ، لا بخلق الموت .
وقال الفراء والزجاج أيضاً{[57317]} : لم تقع البلوى على «أي » لأن فيما بين البلوى و «أي » إضمار فعل كما تقول : «بَلوْتُكمْ لأنْظُر أيكم أطوع » ، ومثله قوله تعالى : { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ }[ القلم : 40 ] ، أي : سلهم ، ثم انظر أيهم ، فأيهم ، رفع بالابتداء ، والمعنى : ليبلوكم ليعلم ، أو فينظر أيكم أحسن عملاً .
قال ابن الخطيب{[57318]} : «أيُّكُمْ » مبتدأ ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله .
الابتلاءُ : هو التجربة ، والامتحان ، حتى يعلم أنه هل يطيع ، أو يعصي ، وذلك في حق العالم بجميع المعلومات مُحَال ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في قوله تعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ }[ البقرة : 124 ] .
والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر .
قال السديُّ في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي : أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً{[57319]} .
وقال ابن عمر : «تلا النبي صلى الله عليه وسلم : { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك } حتَّى بلغ { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فقال : " أورعُ عن محَارمِ اللَّهِ ، وأسرعُ في طاعةِ اللَّهِ " {[57320]} .
وقيل : يعاملكم معاملة المختبر ، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره ، وبالحياة ليبين شكره .
وقيل : خلق الله الموت للبعث والجزاء ، وخلق الحياة للابتلاء «وهُوَ العَزِيزُ » في انتقامهِ ممن عصاه «الغَفُورُ » لمن تاب .
فصل فيمن قالوا : إن فعل الله يكون لغرض
احتج القائلون{[57321]} بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله : «ليَبْلُوكُمْ » قالوا : وهذه اللام للغرض كقوله تعالى { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، والجواب : أن الفعل في نفسه ليس بالابتلاء ، إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي به مجازاً ، فكذلك هاهنا ، إنه يشبه الغرض ، وإن لم يكن في نفسه غرضاً ، فقدم حرف الغرضِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.