الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ} (2)

والحياة : ما يصح بوجوده الإحساس . وقيل : ما يوجب كون الشيء حياً ، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر . والموت عدم ذلك فيه ، ومعنى خلق الموت والحياة : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه . والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون { لِيَبْلُوَكُمْ } وسمى علم الواقع منهم باختيارهم «بلوى » ، وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر . ونحوه قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ } [ محمد : 31 ] .

فإن قلت : من أين تعلق قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } بفعل البلوى ؟ قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملا ؛ وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملا أم هو ؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملا .

فإن قلت : أتسمي هذا تعليقاً ؟ قلت : لا ، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق . ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الاستفهام وغير مصدر به ، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق ، وعلمت زيداً منطلقاً . { أَحْسَنُ عَمَلاً } قيل : أخلصه وأصوبه ؛ لأنه إذا كان خالصاً غير صواب لم يقبل ، وكذلك إذا كان صواباً غير خالص ؛ فالخالص : أن يكون لوجه الله تعالى ؛ والصواب : أن يكون على السنة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلاها ، فلما بلغ قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } قال : " أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله " يعني : أيكم أتم عقلا عن الله وفهما لأغراضه ؛ والمراد : أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وتستمكنون منه ، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح ، لأن وراءه البعث والجزاء الذي لا بد منه . وقدم الموت على الحياة ، لأنّ أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم { وَهُوَ العزيز } الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل { الغفور } لمن تاب من أهل الإساءة .