قوله تعالى : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } أي : لا يخافون وقائع الله ولا يبالون نقمته ، قال ابن عباس ومقاتل : نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وذلك أن رجلاً من بني غفار شتمه بمكة فهم عمر -رضي الله تعالى عنه- أن يبطش به ، فأنزل الله هذه الآية ، وأمره أن يعفو عنه . وقال القرظي والسدي : نزلت في أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذىً شديد من المشركين ، من قبل أن يؤمروا بالقتال ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ثم نسختها آية القتال . { ليجزي قوماً } قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : ( لنجزي ) بالنون ، وقرأ الآخرون بالياء ، أي ليجزي الله ، وقرأ أبو جعفر ( ليجزى ) بضم الياء الأولى وسكون الثانية وفتح الزاي ، قال أبو عمرو : وهو لحن ، قال الكسائي : معناه ليجزي الجزاء قوماً ، { بما كانوا يكسبون* من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون }
وقوله : { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } أي : يصفحوا عنهم ويحملوا{[26311]} الأذى منهم . وهذا كان في ابتداء الإسلام ، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ، ليكون ذلك لتأليف قلوبهم{[26312]} ، ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد . هكذا روي عن ابن عباس ، وقتادة .
وقال مجاهد [ في قوله ]{[26313]} { لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } لا يبالون{[26314]} نعم الله .
وقوله : { لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : إذا صفحوا{[26315]} عنهم في الدنيا ، فإن الله مجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة ؛ ولهذا قال : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لّلّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للذين صدّقوا الله واتبعوك ، يغفروا للذين لا يخافون بأس الله ووقائعه ونقمه إذا هم نالوهم بالأذى والمكروه لِيَجْزِيَ قَوْما بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ يقول : ليجزي الله هؤلاء الذين يؤذونهم من المشركين في الاخرة ، فيصيبهم عذابه بما كانوا في الدنيا يكسبون من الإثم ، ثم بأذاهم أهل الإيمان بالله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْما بِمَا كانُوا يَكْسِبونَ قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه ، وكانوا يستهزئون به ، ويكذّبونه ، فأمره الله عزّ وجلّ أن يقاتل المشركين كافّة ، فكان هذا من المنسوخ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : لا يُبالون نِعم الله ، أو نِقم الله .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا يَرْجونَ أيّامَ اللّهِ قال : لا يُبالون نِعم الله ، وهذه الاية منسوخة بأمر الله بقتال المشركين . وإنما قُلنا : هي منسوخة لإجماع أهل التأويل على أن ذلك كذلك . ذكر من قال ذلك : وقد ذكرنا الرواية في ذلك عن ابن عباس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : نسختها ما في الأنفال : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ ، فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ ، وفي براءة : قاتِلُوا المُشْركِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافّةً ، أمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : نسختها فاقْتُلُوا المُشْركِينَ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : هذا منسوخ ، أمر الله بقتالهم في سورة براءة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة عمن ذكره عن أبي صالح : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا للّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : نسختها التي في الحجّ : أُذِنَ لِلّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : هؤلاء المشركون ، قال : وقد نسخ هذا وفرض جهادهم والغلظة عليهم .
وجزم قوله : يَغْفِرُوا تشبيها له بالجزاء والشرط وليس به ، ولكن لظهوره في الكلام على مثاله ، فعرّب تعريبه ، وقد مضى البيان عنه قبل .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : لِيَجْزِيَ قَوْما فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة والكوفة : لِيَجْزِيَ بالياء على وجه الخبر عن الله أنه يجزيهم ويثيبهم ، وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الكوفيين «لِنَجْزِيَ » بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه . وذُكر عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرأه «لِيُجْزَى قَوْما » على مذهب ما لم يسمّ فاعله ، وهو على مذهب كلام العرب لحن ، إلاّ أن يكون أراد : ليجزى الجزاء قوما ، بإضمار الجزاء ، وجعله مرفوعا «لِيُجْزَى » فيكون وجها من القراءة ، وإن كان بعيدا .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن قراءته بالياء والنون على ما ذكرت من قراءة الأمصار جائزة بأيّ تينك القراءتين قرأ القارىء . فأما قراءته على ما ذكرت عن أبي جعفر ، فغير جائزة عندي لمعنيين : أحدهما : أنه خلاف لما عليه الحجة من القرّاء ، وغير جائز عندي خلاف ما جاءت به مستفيضا فيهم . والثاني بعدها من الصحة في العربية إلاّ على استكراه الكلام على غير المعروف من وجهه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.