معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ، يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوؤهم ، فيحزنون لذلك ويقولون ما نراهم إلا وقد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلما طال ذلك عليهم وكثر شكوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } أي المناجاة ، { ثم يعودون لما نهوا عنه } أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها ، { ويتناجون } قرأ الأعمش وحمزة : وينتجون ، على وزن يفتعلون ، وقرأ الآخرون يتناجون ، لقوله : { إذا تناجيتم فلا تتناجوا }( المجادلة :10 ) { بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } ، وذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان نهاهم عن النجوى فعصوه ، { وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله } ، وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، { ويقولون } السام عليك . والسام : الموت ، وهم يوهمونه أنهم يقولون : السلام عليك ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول : عليكم ، فإذا خرجوا قالوا : { في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } يريدون : لو كان نبياً حقاً لعذبنا الله بما نقول ، قال الله عز وجل :{ حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أبو أيوب عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة : ( أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : السام عليك ، قال : وعليكم ، فقالت عائشة : السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال : أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم ، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في ) .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد [ في قوله ]{[28393]}{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى } قال : اليهود وكذا قال مقاتل بن حيان ، وزاد : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة ، وكانوا إذا مر بهم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم ، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله - أو : بما يكره المؤمن - فإذا رأى المؤمن ذلك خَشيهم ، فترك طريقه عليهم ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى ، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى ، فأنزل الله :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ } .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثني سفيان بن حمزة ، عن كثير عن زيد ، عن رُبَيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نبيت عنده ؛ يطرُقه من الليل أمر{[28394]} وتبدو له حاجة ، فلما كانت ذات ليلة كَثُر أهل النّوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما هذا النجوى ؟ ألم تُنْهَوا عن النجوى ؟ ) ، قلنا : تبنا إلى الله يا رسول الله ، إنا كنا في ذكر المسيح ، فَرقا منه ، فقال : ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه ؟ ) ، قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : ( الشرك الخفي ، أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل ) هذا إسناد غريب ، وفيه بعض الضعفاء{[28395]} .

وقوله :{ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } أي : يتحدثون فيما بينهم بالإثم ، وهو ما يختص بهم ، والعدوان ، وهو ما يتعلق بغيرهم ، ومنه معصية الرسول ومخالفته ، يُصِرون عليها ويتواصون بها .

وقوله :{ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا بن نمير ، عن الأعمش ، [ عن مسلم ]{[28396]} عن مسروق ، عن عائشة قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا : السام عليك يا أبا القاس ، . فقالت عائشة : وعليكم السام و[ اللعنة ]{[28397]} ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة ، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ) ، قلت : ألا تسمعهم يقولون : السام عليك ؟ فقال رسول الله : ( أو ما سمعت أقول{[28398]} وعليكم ؟ ) . فأنزل الله :{ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } {[28399]} .

وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم : عليكم السام والذام واللعنة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنه يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا ){[28400]} .

وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه ، إذ أتى عليهم يهودي فسلَّم عليهم ، فردوا عليه ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : ( هل تدرون ما قال ؟ ) ، قالوا : سلم يا رسول الله . قال : ( بل قال : سام عليكم ، أي : تسامون دينكم ) . قال رسول الله : ( ردوه ) . فردوه عليه . فقال نبي الله : ( أقلت : سام عليكم ؟ ) ، قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا : عليك ) أي : عليك ما قلت {[28401]} . وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح ، وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة ، بنحوه{[28402]} .

وقوله :{ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } أي : يفعلون هذا ، ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام ، وإنما هو شتم في الباطن ، ومع هذا يقولون في أنفسهم : لو كان هذا نبيًا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن ؛ لأن الله يعلم ما نسره ، فلو كان هذا نبيًا حقًّا لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا ، فقال الله تعالى :{ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } أي : جهنم كفايتهم في الدار الآخرة{ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سام عليك ، ثم يقولون في أنفسهم :{ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } ؟ ، فنزلت هذه الآية :{ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } إسناد حسن ولم يخرجوه{[28403]} .

وقال العوفي ، عن بن عباس :{ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } قال : كان المنافقون يقولون لرسول الله إذا حيوه : " سام عليك " ، قال الله :{ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .


[28393]:- (2) زيادة من أ.
[28394]:- (3) في م: "أمرًا" وهو خطأ.
[28395]:- (1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/30) وابن ماجة في السنن برقم (4204) من طريق كثير بن زيد به نحوه، وقال البوصيري في الزوائد (3/296): "هذا إسناد حسن، كثير بن زيد وربيع بن عبد الرحمن مختلف فيهما".
[28396]:- (2) زيادة من المسند (6/229).
[28397]:- (3) زيادة من أ.
[28398]:- (4) في أ: "ما أقول".
[28399]:- (5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2165) من طريق يعلى بن عبيد، عن الأعمش به نحوه.
[28400]:- (6) انظر: صحيح البخاري برقم (6030) وصحيح مسلم برقم (2166) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
[28401]:- (7) تفسير الطبري (27/11).
[28402]:- (8) صحيح مسلم برقم (2163).
[28403]:- (1) المسند (2/170).