السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : { ألم تر } أي : تعلم علماً هو كالرؤية { إلى الذين نهوا عن النجوى } فقيل : في اليهود وقيل : في المنافقين ، وقيل : في فريق من الكفار وقيل في فريق من المسلمين لما روى أبو سعيد الخدري قال : «كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ما هذه النجوى فقلنا تبنا إلى الله تعالى يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح يعني الدجال فرقاً منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه ، قلنا بلى يا رسول الله ، قال : الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل » ذكره الماوردي .

وقال ابن عباس : «نزلت في اليهود والمنافقين ، كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك ويقولون : ما نراهم إلا وقد بلغهم من إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلما طال ذلك عليهم وأثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله تعالى : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } { ثم يعودون } أي : على سبيل الاستمرار ، لأنه وقع مرّة وبادروا إلى التوبة منها أو فلتة معفواً عنها ، { لما نهوا عنه } أي : من غير أن يعتدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عنده { ويتناجون } أي : يقبل بعضهم على المناجاة إقبالاً واحداً فيفعل كل منهم منها ما يفعله الآخر مرّة بعد أخرى على سبيل الاستمرار .

وقرأ حمزة بعد الياء : بنون ساكنة وبعدها ثاء فوقية مفتوحة ولا ألف قبل الجيم وضم الجيم ، والباقون بتاء فوقية مفتوحة وبعدها نون مفتوحة وبعد النون ألف وفتح الجيم { بالإثم } أي : بالشيء الذي لا يثبت عليهم به الذنب وبالكذب وبما لا يحل ، { والعدوان } أي : العدوان الذي هو نهاية في قصد الشرّ بالإفراط في مجاوزة الحدود { ومعصيت الرسول } أي : مخالفة النبيّ الذي جاء إليهم من الملك الأعلى وهو كامل في الرسالة لكونه مرسلاً إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان فلا نبيّ بعده فهو لذلك مستحق غاية الإكرام .

فائدة : رسمت معصية في الموضعين بالتاء المجرورة ، وإذا وقف عليها فأبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء في الوقف ، والكسائي بالإمالة في الوقف على أصله ووقف الباقون بالتاء على الرسم واتفقوا في الوصل على التاء .

{ وإذا جاؤوك } أي : يا أشرف الخلق { حيوك } أي : واجهوك بما يعدونه تحية { بما لم يحيك به الله } أي : الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه «وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون السام عليك ، والسام الموت وهم يوهمون أنهم يقولون السلام عليك ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول : وعليكم فقالت السيدة عائشة : السام عليكم ولعنة الله وغضبه عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش ، فقالت : أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم تسمعي ما قلت ، رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ » ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : عليك ما قلت » فأنزل الله تعالى : { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله } ، وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال : «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم » بالواو فقال بعض العلماء : إنّ الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن ندخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سآمة ديننا وهو الملال يقال سئم يسأم سأمة وسأماً ، وقال بعضهم : الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر :

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ***

أي : لما أجزنا انتحى فزاد الواو وقال : آخرون هي للاستئناف ، كأنه قيل : والسام عليكم ، وقال آخرون : هي على بابها من العطف ولا يضرّنا ذلك لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدّم في قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة .

تنبيه : اختلف العلماء في ردّ السلام على أهل الذمة فقال ابن عباس والشعبي وقتادة : هو واجب لظاهر الأمر بذلك ، وقال مالك : ليس بواجب فإن رددت فقل وعليك ، وعندنا يجب أن يقول له وعليك لما مرّ في الحديث ، وقال بعضهم : يقول في الردّ علاك السلام أي : ارتفع عنك ، وقال بعض المالكية : يقال في الردّ السلام عليك بكسر السين يعني الحجارة .

ولما كانوا يخفون ذلك جهدهم ويظنون بإملاء الله تعالى لهم أنه صلى الله عليه وسلم لا يطلع عليه وإن اطلع عليه لم يقدر أن ينتقم منهم ، عبر عن ذلك بقوله تعالى : { ويقولون في أنفسهم } من غير أن يطلع عليه أحد { لولا } أي : هلا ولم لا { يعذبنا الله } أي : الذي له الإحاطة بكل شيء ، { بما نقول } أي : لو كان نبيناً لعذبنا الله بما نقول وقيل : قالوا إنه يردّ علينا ويقول : وعليكم السام فلو كان نبياً لاستجيب له فينا ومتنا وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب وكانوا يعلمون أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يغضبون فلا يعاجلون من يغضبهم بالعذاب { حسبهم } أي : كافيهم في الانتقام { جهنم } أي : الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والفظاظة فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة { يصلونها } أي : يقاسون عذابها دائماً ، فإنا قد أعددناها لهم { فبئس المصير } أي : مصيرهم .