فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ( 8 ) } .

{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ، ثم يعودون لما نهوا عنه } هؤلاء هم من تقدم ذكرهم من المنافقين واليهود ، وصيغة المضارع للدلالة على تمكن عودهم وتجدده ، واستحضار صورته العجيبة ، قال مقاتل : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين اليهود موادعة ، فإذا مر بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا فنهاهم الله فلم ينتهوا فنزلت .

وقال ابن زيد : كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فيسأله الحاجة ويناجيه ، والأرض يومئذ حرب ، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم ، فيفزعون لذلك .

{ ويتناجون بالإثم والعدوان } قرأ الجمهور يتناجون بوزن يتفاعلون لقوله فيما بعد { إذا تناجيتم فلا تتناجوا } ، وقرئ ينتجيون بوزن يفتعلون ، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد ، نحو تخاصموا واختصموا وتقاتلوا واقتتلوا ، ومعنى الإثم ما هو إثم في نفسه ، كالكذب والظلم ، والعدوان ما فيه عدوان على المؤمنين .

{ ومعصية الرسول } أي مخالفته ، وقرئ معصيات بالجمع ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نهاهم عن النجوى فعصوه وعادوا إليها ، وقيل : المعنى يوصي بعضهم بعضا بمعصية الرسول ، رسمت معصية هذه والتي بعدها بالتاء المجرورة وإذا وقف عليها فأبو عمرو وابن كثير والكسائي يقفون بالهاء ، غير أن الكسائي يقف بالإمالة على أصله ، والباقون يقفون بالتاء على الرسم ، واتفقوا في الوصل على التاء .

{ وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله } قال القرطبي : إن المراد بها اليهود ، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون : السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهرا ، وهم يعنون الموت باطنا ، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : عليكم ، وفي رواية وعليكم قال ابن عمر في الآية : يريدون بذلك شتمه فنزلت هذه الآية . أخرج أحمد والبخاري والترمذي وصححه :عن أنس أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال : ( السام عليكم فرد عليه القوم ، فقال : هل تدرون ما قال هذا ؟ قالوا : الله أعلم ، سلم يا نبي الله ، قال : لا ولكنه قال : كذا وكذا ، ردوه علي فرددوه ، قال : قلت السام عليكم ؟ قال : نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا : عليك ، قال عليك ما قلت ) .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : ( دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقالت عائشة : عليكم السام واللعنة ، فقال : يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، قلت :ألا تسمعهم يقولون السام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أو ما سمعتني أقول : وعليكم ، فأنزل الله هذه الآية )( {[1567]} ) . وعن ابن عباس قال : ( كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا حيوه سام عليك فنزلت ) . { ويقولون في أنفسهم } أي فيما بينهم إذا خرجوا من عنده { لولا يعذبنا الله بما نقول } أي هلا يعذبنا بذلك ؟ ولو كان محمد نبيا لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الإستخفاف به . وقيل : المعنى لو كان نبيا لاستجيب له فينا ، حيث يقول : وعليكم ، ووقع علينا الموت عند ذلك ، { حسبهم جهنم } عذابا { يصلونها } يدخلونها ، { فبئس المصير } أي المرجع وهو جهنم .


[1567]:رواه مسلم.