اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى } الآية ، قيل : هم اليهود ، وقيل : هم المنافقون ، وقيل : فريق من الكفار ، وقيل : فريق من المسلمين ، لما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : «كنا ذات ليلةٍ نتحدَّث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «مَا هَذِهِ النَّجْوَى » ؟ فقلنا : تُبْنَا إلى الله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كُنَّا في ذكر المسيح ، يعني : الدجال فرقاً منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهُ ؟ » قلنا : بلى ، يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «الشِّرْكُ الخَفِيُّ أن يَقُومَ الرَّجلُ يعْمَلُ لمكانِ رَجُل »{[55675]} . ذكره الماوردي .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ، وينظرون للمؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فقال المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل ، أو مصيبة ، أو هزيمة ؛ ويسوؤهم ذلك ، وكثرت شكواهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا{[55676]} ، فنزلت الآية .

وقال مقاتل : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة ، فإذا مرَّ بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرًّا ، فيعرج عن طريقه فنهاهم الله - سبحانه - فلم ينتهوا فنزلت{[55677]} .

وقال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم : كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله الحاجة ويناجيه ، والأرض يومئذ خرب فيتوهّموا أنه يناجيه في حرب أو بليَّة أو أمر فيفزعون لذلك فنزلت{[55678]} .

قال ابن الخطيب{[55679]} رحمه الله : والأولى أن تكون نزلت في اليهود ؛ لأنه - عز وجل - حكى عنهم ، فقال : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } وهذا إنما وقع من اليهود ، كانوا إذا سلموا على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا : السَّامُ عليكم ، يعنون الموت .

قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } أي : يرجعون إلى المُناجاة التي نهوا عنها .

قوله : { ويَتَنَاجَوْنَ } ، قرأ{[55680]} حمزة : «وينْتَجُون » بغير ألف من «الانتجاء » من «النجوى » على وزن «يَفْتَعلُون » .

والباقون : «ويتناجون » من «التَّناجي » من «النجوى » أيضاً .

قال أبو علي{[55681]} : والافتعال ، والتفاعل يجريان مجرى واحداً ، ومن ثمَّ صححوا «ازْدَوجُوا واعتورُوا » لما كانا في معنى تزاوجوا وتعاوروا ، وجاء { حتى إِذَا ادّاركوا } [ الأعراف : 28 ] وادَّرَكُوا .

قال شهاب الدين{[55682]} : ويؤيد قراءة العامة الإجماع على تناجيهم ، و«فلا تتناجوا » و«تناجوا » ، فهذا من «التفاعل » لا غير ، إلاَّ ما روي عن عبد الله ، أنه قرأ{[55683]} { إذا انْتَجَيْتُم فلا تنتجوا } .

ونقل أبو حيان{[55684]} عن الكوفيين والأعمش : «فلا تنتجوا » كقراءة عبد الله .

وأصل : «تَنْتَجُونَ » «تَنْتَجِيونَ » و«تَنَاجَوْن » فاستثقلت الضَّمَّة على الياء ، فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت لالتقائهما ، أو تقول : تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله ، فقلبت ألفاً فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما وبقيت الفتحة دالة على الألف{[55685]} .

قوله : { بالإثم والعدوان } ، قرأ أبو حيوة{[55686]} : «بالعِدْوان » بكسر العين . والمراد «بالإثم والعدوان » : الكذب والظلم ، { وَمَعْصِيَة الرسول } صلى الله عليه وسلم مخالفته .

وقرأ الضَّحاك{[55687]} : «ومعصيات الرَّسُول » صلى الله عليه وسلم .

قوله : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } ، قال القرطبي{[55688]} : لا خلاف بين أهل النقل أن المراد به اليهود ، وكانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : السَّام عليك يعنون الموت . كما روت عائشة - رضي الله عنها - «أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السَّام عليك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ » فقالت عائشة رضي الله عنها : السَّام عليكم ، ولعنة الله ، وغضبه عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَهْلاً يا عَائِشَةُ ، عليْكِ بالرِّفْقِ وإيَّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ » ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله ؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك «أو لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ ورَدَدْتُ عليْهِمْ فَيُسْتجَابُ لي فيْهِمْ ولا يُسْتجابُ لهُمْ فِيْ ؟ »{[55689]} .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : «إذَا سَلَّمَ عَليْكُمْ أهْلُ الكتابِ ، فقُولُوا : علَيْكَ مَا قُلْتَ » ، فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله }{[55690]} .

وروى أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا سَلمَ علَيْكُمْ أهْلُ الكتابِ فقُولُوا : وعَليْكُمْ »{[55691]} بالواو .

فقال بعض العلماء رضي الله عنهم : إن الواو العاطفة تقتضي التشريك ، فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت ، أو من سآمة ديننا وهو الهلاك ، يقال : سَئِمَ يَسْأمُ سَآمةً وسَآماً . وقال بعضهم «الواو » زائدة كما زيدت في قول الشاعر : [ الطويل ]

فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[55692]} ، أي : لما أجزنا انتحى ، فزاد «الواو » .

وقال آخرون : هي للإستئناف ، كأنه قال : والسام عليكم ، وقال آخرون : هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك ؛ لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم ل «عائشة » رضي الله عنها .

فصل في رد السَّلام على أهل الذمة :

اختلفوا في ردّ السَّلام على أهل الذِّمة{[55693]} ، فقال ابن عباس والشعبي وقتادة : هو واجب لظاهر الأمْرِ بذلك . وقال مالك رضي الله عنه : ليس بواجب ، فإن رددت فقل : عليك .

وقال بعضهم : نقول في الرد : علاك السَّلام ، أي : ارتفع عنك . وقال بعض المالكية : تقول في الرد : السلام عليك - بكسر السين - يعني الحجارة .

قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا } ، هذه الجملة التحضيضية في موضع نصب بالقول{[55694]} ، ومعنى الآية : أن اليهود - لعنهم الله - لما كانوا يقولون : السام عليك ، ويوهمون أنهم يسلمون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بقوله : «عليكم » فإذا خرجوا قالوا : «لولا يعذبنا الله » أي : هلا يعذبنا بما نقول ، أي : لو كان نبيًّا لعذبنا الله بما نقول .

وقيل : قالوا : إنه يرد علينا ، ويقول : وعليكم السَّام ، فلو كان نبيًّا لاستجيب له فينا ومتنا ، وهذا موضع تعجب منهم ، فإنهم كانوا أهل الكتاب ، وكانوا يعلمون أنَّ الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - قد يغضبون ، فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب{[55695]} .

قوله : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } أي : كافيهم جهنم عقاباً غداً { يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } .


[55675]:أخرجه ابن ماجه (2/1406)، كتاب الزهد، باب: الرياء والسمعة حديث (4204)، وأحمد (3/30) والحاكم (4/329)، من طريق كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمان بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن أبي سعيد به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في "الزوائد" (3/296)، رقم (1498): هذا إسناد حسن كثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمان مختلف فيهما. وذكره الماوردي في النكت والعيون 5/491، والقرطبي 17/189.
[55676]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/189).
[55677]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/269) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.
[55678]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/189).
[55679]:التفسير الكبير 29/231.
[55680]:ينظر: السبعة 628، والحجة 6/278، وإعراب القراءات 2/355، وحجة القراءات 704، والعنوان 187، وشرح الطيبة 6/45، وشرح شعلة 599، وإتحاف 2/526.
[55681]:ينظر: الحجة 6/280.
[55682]:ينظر: الدر المصون 6/288.
[55683]:ينظر: الكشاف 4/491.
[55684]:ينظر: البحر المحيط 8/234.
[55685]:ينظر: الدر المصون 6/288.
[55686]:ينظر: المحرر الوجيز 5/277، والبحر المحيط 8/234، والدر المصون 6/288.
[55687]:ينظر: الكشاف 4/491، والمحرر الوجيز 5/277، والرازي 29/232، والبحر المحيط 8/234، والدر المصون 6/288.
[55688]:الجامع لأحكام القرآن 17/189.
[55689]:أخرجه البخاري 11/44، في كتاب الاستئذان باب: كيف الرد على أهل الذمة بالسلام (6256)، ومسلم 4/1706، في كتاب السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (10/2165).
[55690]:أخرجه ابن أبي شيبة (8/442)، والترمذي (5/379 - 380) رقم (3301)، وابن ماجه (2/1219)، رقم (3697) من حديث أنس وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[55691]:ينظر الحديث السابق.
[55692]:تقدم.
[55693]:ينظر: القرطبي 17/190.
[55694]:ينظر: الدر المصون 6/288.
[55695]:ينظر القرطبي 17/191.