قوله تعالى : { وعدكم الله مغانم كثيرةً تأخذونها } وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة ، { فعجل لكم هذه } يعني خيبر ، { وكف أيدي الناس عنكم } ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة ، فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم ، وقيل : كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح ، { ولتكون } كفهم وسلامتكم ، { آيةً للمؤمنين } على صدقك ويعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم ، { ويهديكم صراطاً مستقيماً } يثبتكم على الإسلام ويزيدكم بصيرة ويقيناً بصلح الحديبية ، وفتح خيبر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع إلى خيبر .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن حميد ، عن أنس بن جعفر " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغير بنا حتى يصبح وينظر إليهم ، فإن سمع أذاناً كف عنهم ، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم قال : فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلاً فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبي صلى الله عليه وسلم : قال : فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم ، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : محمد -والله- محمد والخميس ، فلجئوا إلى الحصن ، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الله أكبر ، الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد الله ابن عبد الرحمن الدارمي ، أنبأنا أبو علي الحنفي ، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا إياس بن سلمة ، حدثني أبي قال : خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم شعرا :
تالله لولا الله ما اهتدينا*** ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا*** فثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينةً علينا*** إن الألى قد بغوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هذا ؟ فقال : أنا عامر ، غفر لك ربك ، قال : وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد ، قال : فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له : يا نبي الله لولا متعتنا بعامر ، قال : فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول : قد علمت خيبر أني مرحب*** شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب *** . . .
قال : وبرز له عمي عامر ، فقال :
قد علمت خيبر أني عامر*** شاكي السلاح بطل مغامر
قال فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له ، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله ، وكانت فيها نفسه . قال سلمة : فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : بطل عمل عامر قتل نفسه ، قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابكي ، فقلت : يا رسول الله بطل عمل عامر قتل نفسه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قال ذلك ؟ قلت : ناس من أصحابك ، قال : كذب من قال ذلك ، بل له أجره مرتين ، ثم أرسلني إلى علي رضي الله عنه -وهو أرمد- فقال : لأعطين الراية غدا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، قال : فأتيت علياً رضي الله عنه فجئت به أقوده وهو أرمد ، حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في عينيه فبرأ ، وأعطاه الراية ، وخرج مرحب فقال : قد علمت خيبر أني مرحب*** شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب *** . . .
أنا الذي سمتني أمي حيدره*** كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره *** . . .
قال : فضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه .
وروى حديث خيبر سهل بن سعد ، وأنس ، وأبو هريرة ، يزيدون وينقصون ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس ، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً ، ثم رجع فأخذها عمر رضي الله عنه فقاتل قتالاً شديداً ، هو أشد من القتال الأول ، ثم رجع ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ، فدعا علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال : امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك ، فأتى مدينة خيبر ، فخرج مرحب صاحب الحصن ، وعليه مغفر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه ، وهو يرتجز ، فبرز إليه علي فضربه فقد الحجر والبيضة والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس ، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر ، يرتجز فخرج إليه الزبير بن العوام ، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب : أيقتل ابني يا رسول الله ؟ قال : لا ، بل ابنك يقتله إن شاء الله ، ثم التقيا فقتله الزبير ، ثم لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يفتح الحصون ، ويقتل المقاتلة ويسبي الذرية ، ويحوز الأموال . قال محمد بن إسحاق : وكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم ، وعنده قتل محمود بن سلمة ، ألقت عليه اليهود حجراً فقتله ، ثم فتح العموص ، حصن ابن أبي الحقيق ، فأصاب منه سبايا ، منهم صفية بنت حيي بن أخطب ، جاء بلال بها وبأخرى معها ، فمر بهما على قتلى يهود ، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أغربوا عني هذه الشيطانة ، وأمر بصفية فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداء ، فعرف المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطفاها لنفسه ، وقال رسول الله لبلال ، لما رأى من تلك اليهودية ما رأى : أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ، وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق أن قمراً وقع في حجرها ، فعرضت رؤياها على زوجها ، فقال : ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمداً ، فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، وبها أثر منها فسألها ما هو ؟ فأخبرته هذا الخبر ، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجها كنانة ابن الربيع ، وكان عنده كنز بني النضير فسأله ، فجحده أن يكون يعلم مكانه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من اليهود فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني قد رأيت كنانة يطوف بهذه الخربة كل غداة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك أنقتلك ؟ قال : نعم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله ما بقي فأبى أن يؤديه ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام فقال : عذبه حتى تستأصل ما عنده ، فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن سلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن سلمة " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر ، فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس ، فركب أبو طلحة ، وأنا رديف أبي طلحة ، فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل القرية قال : الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ، قالها ثلاثاً ، قال : وخرج القوم إلى أعمالهم ، فقالوا : محمد والخميس ، قاله عبد العزيز ، وقال بعض أصحابنا : والخميس يعني : الجيش ، قال : فأصبناها عنوة ، فجمع السبي فجاء دحية فقال : يا نبي الله أعطني جارية من السبي ، قال : اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي ، فجاء رجل إلى نبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ، لا تصلح إلا لك ، قال : ادعوه بها ، فجاء بها ، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال : خذ جارية من السبي غيرها ، قال : فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها ، فقال له ثابت : يا أبا حمزة ما أصدقها ؟ قال : نفسها ، أعتقها فتزوجها ، حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم ، فأهدتها له من الليل ، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً ، فقال : من كان عنده شيء فليجيء به ، وبسط نطعاً فجعل الرجل يجيء بالتمر والآخر يجيء بالسمن ، قال : وأحسبه قد ذكر السويق ، قال : فحسوا حسياً فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد الواحد الشيباني قال : " سمعت ابن أبي أوفى يقول : أصابتنا مجاعة ليالي خيبر ، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها ، فلما غلت القدور نادي منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفئوا القدور ولا تطعموا من لحوم الحمر شيئاً ، قال عبد الله بن عباس : فقلنا : إنما نهى النبي عنها لأنها لم تخمس ، وقال آخرون : حرمها البتة " ، وسألت عنها سعيد بن جبير فقال : حرمها البتة .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي ، أنبأنا خالد بن الحارث ، حدثنا شعبة ، عن هشام بن زيد ، عن أنس " أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة ، فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك ، فقالت : أردت أن أقتلك ، قال : ما كان ليسلطك على ذلك ، أو قال علي ، قال : قالوا ألا تقتلها يا رسول الله ؟ قال : لا وتجاوز عنها محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وقال محمد بن إسماعيل قال يونس ، عن الزهري قال عروة ، قالت عائشة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : في مرضه الذي مات فيه : يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن بشار ، أنبأنا حرمي ، أنبأنا شعبة قال : أخبرني عمارة ، عن عكرمة ، عن عائشة قالت : لما فتحت خيبر قلنا : الآن نشبع من التمر .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثنا موسى بن عقبة ، أخبرني نافع ، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل خيبر أراد أن يخرج اليهود منها ، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين ، فسأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف التمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نقركم على ذلك ما شئنا . فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء . قال محمد ابن إسحاق : فلما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم ، ويخلوا له الأموال ، ففعل . ثم إن أهل خيبر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم الأموال على النصف ، ففعل على أنا إذا شئنا أخرجناكم ، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب . فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية ، وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها السم ، وسممت سائر الشاة ، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تناول الذراع فأخذها فلاك منها مضغة فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، وقد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما بشر فأساغها ، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ، ثم قال : إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ، ثم دعا بها فاعترفت ، فقال : ما حملك على ذلك ؟ قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان ملكاً استرحت منه ، وإن كان نبياً فسيخبر عنها ، فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل . قال : ودخلت أم بشر بن البراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعوده في مرضه الذي توفي فيه ، فقال : يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت مع ابنك تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري ، وكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله من النبوة .
وبعد ذلك التبليغ العلوي الكريم للرسول الأمين عن المؤمنين المبايعين يتجه بالحديث إلى المؤمنين أنفسهم . الحديث عن هذا الصلح ، أو عن هذا الفتح ، الذي تلقوه صابرين مستسلمين :
( وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ، فعجل لكم هذه ، وكف أيدي الناس عنكم ، ولتكون آية للمؤمنين ، ويهديكم صراطا مستقيما . وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ، وكان الله على كل شيء قديرا ) . .
وهذه بشرى من الله للمؤمنين سمعوها وأيقنوها ، وعلموا أن الله أعد لهم مغانم كثيرة ، وعاشوا بعد ذلك
ما عاشوا وهم يرون مصداق هذا الوعد الذي لا يخلف . وهنا يقول لهم : إنه قد عجل لهم هذه . وهذه قد تكون صلح الحديبية - كما روي عن ابن عباس - لتأكيد معنى أنه فتح ومغنم . وهو في حقيقته كذلك كما أسلفنا من قول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومن وقائع الحال الناطقة بصدق هذا الاعتبار . كما أنها قد تكون فتح خيبر - كما روي عن مجاهد - باعتبار أنها أقرب غنيمة وقعت بعد الحديبية . والأول أقرب وأرجح .
ويمن الله عليهم بأنه كف أيدي الناس عنهم . وقد كف الله عنهم أيدي المشركين من قريش كما كف أيدي سواهم من أعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر . وهم قلة على كل حال ، والناس كثرة . ولكنهم وفوا ببيعتهم ، ونهضوا بتكاليفهم ، فكف الله أيدي الناس عنهم ، وأمنهم .
( ولتكون آية للمؤمنين ) . . هذا الوقعة التي كرهوها في أول الأمر ، وثقلت على نفوسهم . فالله ينبئهم أنها ستكون آية لهم ، يرون فيها عواقب تدبير الله لهم ، وجزاء طاعتهم لرسول الله واستسلامهم . مما يثبت في نفوسهم أنها شيء عظيم ، وخير جزيل ، ويلقي السكينة في قلوبهم والاطمئنان والرضى واليقين .
( ويهديكم صراطا مستقيما ) . . جزاء طاعتكم وامتثالكم وصدق سريرتكم . وهكذا يجمع لهم بين المغنم ينالونه ، والهداية يرزقونها . فيتم لهم الخير من كل جانب . في الأمر الذي كرهوه واستعظموه . وهكذا يعلمهم أن اختيار الله لهم هو الاختيار ؛ ويربي قلوبهم على الطاعة المطلقة والامتثال .
{ وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه }
هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً نشأ عن قوله : { وأثابهم فتحاً قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها } [ الفتح : 18 ، 19 ] إذ علم أنهُ فتحُ خيبر ، فحق لهم ولغيرهم أن يخطر ببالهم أن يترقبوا مغانم أخرى فكان هذا الكلام جواباً لهم ، أي لكم مغانم أخرى لا يُحرم منها من تخلفوا عن الحديبية وهي المغانم التي حصلت في الفتوح المستقبلة .
فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين تبعاً للخطاب الذي في قوله : { إذ يبايعونك تحت الشجرة } [ الفتح : 18 ] وليس خاصاً بالذين بايعوا . والوعد بالمغانم الكثيرة واقع في ما سبق نزوله من القرآن وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وسلم مما بلغه إلى المسلمين في مقامات دعوته للجهاد . ووصف { مغانم } بجملة { تأخذونها } لتحقيق الوعد .
وبناء على ما اخترناه من أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة يكون فعل { فعجّل } مستعملاً في الزمن المستقبل مجازاً تنبيهاً على تحقيق وقوعه ، أي سيعجل لكم هذه . وإنما جعل نوالهم غنائم خيبر تعجيلاً ، لقرب حصوله من وقت والوعد به . ويحتمل أن يكون تأخّر نزول هذه الآية إلى ما بعد فتح خيبر على أنها تكملة لآية الوعد التي قبلها ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها عقبها وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على أول هذه السورة ولكن هذا غير مروي .
والإشارة في قوله : { هذه } إلى المغانم في قوله : { ومغانم كثيرة يأخذونها } [ الفتح : 19 ] وأشير إليها على اختلاف الاعتبارين في استعمال فعل { فعجل لكم هذه } .
{ وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عنكم } .
امتنان عليهم بنعمة غفلوا عنها حين حزنوا لوقوع صلح الحديبية وهي نعمة السلم ، أي كف أيدي المشركين عنهم فإنهم لو واجهوهم يوم الحديبية بالقتال دون المراجعة في سبب قدومهم لرجع المسلمون بعد القتال متعبين . ولَما تهيأ لهم فتح خيبر ، وأنهم لو اقتتلوا مع أهل مكّة لدُحِض في ذلك مؤمنون ومؤمنات كانوا في مكة كما أشار إليه قوله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون } [ الفتح : 25 ] الآية .
فالمراد ب { الناس } : أهل مكة جرياً على مصطلح القرآن في إطلاق هذا اللفظ غالباً .
وقيل : المراد كف أيدي الأعراب المشركين من بني أسد وغطفان وكانوا أحلافاً ليهود خيبر وجاءوا لنصرتهم لما حاصر المسلمون خيبر فألقى الله في قلوبهم الرعب فنكصوا .
وقيل : إن المشركين بعثوا أربعين رجلاً ليصيبوا من المسلمين في الحديبية فأسرهم المسلمون ، وهو ما سيجيء في قوله : { وأيْدِيَكم عنهم } [ الفتح : 24 ] . وقيل : كفّ أيدي اليهود عنكم ، أي عن أهلكم وذراريكم إذ كانوا يستطيعون أن يهجموا على المدينة في مدة غيبة معظم أهلها في الحديبية ، وهذا القول لا يناسبه إطلاق لفظ { الناس } في غالب مصطلح القرآن .
والكف : منع الفاعل من فعل أراده أو شرع فيه ، وهو مشتق من اسم الكف التي هي اليد لأن أصل المنع أن يكون دفعاً باليد ، ويقال : كف يده عن كذا ، إذا منعه من تناوله بيده .
وأطلق الكف هنا مجازاً على الصرف ، أي قدّر الله كف أيدي الناس عنكم بأن أوجد أسباب صرفهم عن أن يتناولوكم بضر سواء نووه أو لم ينووه ، وإطلاق الفعل على تقديره كثير في القرآن حين لا يكون للتعبير عن المعاني الإلهية فعل مناسب له في كلام العرب ، فإن اللغة بينت على متعارف الناس مخاطباتهم وطرأت معظم المعاني الإلهية بمجيء القرآن فتغير عن الشأن الإلهي بأقرب الأفعال إلى معناه .
{ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مستقيما } .
الظاهر أن الواو عاطفة وأن ما بعد الواو علة كما تقتضي لام كي فتعين أنه تعليل لشيء مما ذكر قبله في اللفظ أو عطف على تعليل سبقه . فيجوز أن يكون معطوفاً على بعض التعليلات المتقدمة من قوله : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } [ الفتح : 4 ] أو من قوله : { ليُدخل المؤمنين والمؤمنات جنات } [ الفتح : 5 ] وما بينهما اعتراضاً وهو وإن طال فقد اقتضته التنقلات المتناسبات . والمعنى أن الله أنزل السكينة في قلوب المؤمنين لمصالح لهم منها ازدياد إيمانهم واستحقاقهم الجنة وتكفير سيئاتهم واستحقاق المنافقين والمشركين العذابَ ، ولتكون السكينة آية للمؤمنين ، أي عبرة لهم واستدلالاً على لطف الله بهم وعلى أن وعده لا تأويل فيه .
ومعنى كون السكينة آيةً أنها سبب آية لأنهم لما نزلت السكينة في قلوبهم اطمأنت نفوسهم فخلصت إلى التدبر والاستدلال فبانت لها آيات الله فتأنيث ضمير الفعل لأن معاده السكينة . ويجوز أن يكون معطوفاً على تعليل محذوف يُثَار من الكلام السابق ، حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن في تقديره توفيراً للمعنى . والتقدير : فعجّل لكم هذه لِغايات وحِكم ولتكون آية . فهو من ذكر الخاص بعد العام المقدر .
فالتقدير مثلاً : ليحصل التعجيل لكم بنفع عوضاً عما ترقبتموه من منافع قتال المشركين ، ولتكون هذه المغانم آية للمؤمنين منكم ومَن يعرِفون بها أنهم من الله بمكان عنايته وأنه مُوففٍ لهم ما وعدهم وضامن لهم نصرهم الموعود كما ضمن لهم المغانم القريبة والنصر القريب . وتلك الآية تزيد المؤمنين قوة إيمان . وضمير { لتكون } على هذه راجع إلى قوله : { هذه } على أنها المعللة . ويجوز أن يكون الضمير للخصال التي دل عليها مجموع قوله : { فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم } فيكون معنى قوله : { ولتكون آية للمؤمنين } لغايات جمة منها ما ذكر آنفاً ومنها سلامة المسلمين في وقت هم أحوج فيه إلى استبقاء قوتهم مِنْهم إلى قتال المشركين ادخاراً للمستقبل .
وجعل صاحب « الكشاف » جملة { ولتكون آية للمؤمنين } معترضة ، وعليه فالواو اعتراضية غير عاطفة وأن ضمير { لتكون } عائداً إلى المرة من فِعل كَف : أي الكَفة .
وعطف عليه { ويهديكم صراطاً مستقيماً } وهو حكمة أخرى ، أي ليزول بذلك ما خامركم من الكآبة والحزن فتتجرد نفوسكم لإدراك الخير المحض الذي في أمر الصلح وإحالتكم على الوعد فتوقنوا أن ذلك هو الحق فتزدادوا يقيناً . ويجوز أن يكون فعل { ويهديكم } مستعملاً في معنى الإدامة على الهدى وهو : الإيمان الحاصل لهم من قبل على حد قوله : { يا أيها الذين آمَنواْ آمِنوا } [ النساء : 136 ] على أحد تأويلين .