{ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } يعني يوم خيبر . { وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ } أهل مكّة عنكم بالصلح ، وقال قتادة : يعني وكفّ اليهود من خيبر ، وحلفاءهم من أسد ، وغطفان ، عن بيضتكم ، وعيالكم ، وأموالكم بالمدينة ، وذلك أنّ مالك بن عوف النصري ، وعيينة بن حصن الفزاري ، ومن معهما من بني أسد وغطفان جاءوا لنصرة أهل خيبر فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فانصرفوا .
{ وَلِتَكُونَ } هزيمتهم ، وسلامتكم { آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } ليعلموا أنّ الله هو المتولّي حياطتهم ، وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم . { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } طريق التوكّل ، والتفويض حتّى تتقوا في أُموركم كلّها بربّكم ، وتتوكّلوا عليه ، وقيل : يثبتكم على الإسلام ، ويزيدكم بصيرة ويقيناً بصلح الحديبية ، وفتح خيبر ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة الحديبية إلى المدينة ، أقام بها بقيّة ذي الحجّة ، وبعض المحرم ، ثمّ خرج في بقيّة المحرم سنة سبع إلى خيبر ، واستخلف على المدينة سماع بن عرفطة الغفاري .
أخبرنا عبد الله بن محمّد بن عبد الله الزاهد ، قرأه عليه ، أخبرنا أبو العبّاس محمّد بن إسحاق السرّاج ، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدّثنا عثمان بن عمر ، أخبرنا ابن عون ، عن عمرو ابن سعيد ، عن أنس بن مالك ، أخبرنا عبيدالله بن محمّد ، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا عبد الأعلى بن حمّاد أبو يحيى الباهلي ، حدّثنا يزيد بن زريع ، حدّثنا عن ابن أبي عروبة ، قال : أخبرنا عبيد الله بن محمّد ، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدّثنا روح ، عن سعيد ، عن قتادة ،
" عن أنس ، قال : كنت رديف أبي طلحة يوم أتينا خيبر ، فصبّحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذوا مساحيهم ، وفؤوسهم ، وغدوا على حرثهم ، وقالوا : محمّد والخميس . فقال رسول الله : " الله أكبر هلكت خيبر ، إنّا إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين " . ثمّ نكصوا ، فرجعوا إلى حصونهم " .
أخبرنا عبيد الله بن محمّد بن عبد الله بن محمّد ، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا حاتم بن إسماعيل ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع .
وأخبرنا عبيد الله بن محمّد ، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج ، حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدّثنا النضر بن محمّد ، حدّثنا عكرمة بن عمّار ، حدّثنا سلمة بن الأكوع ، عن أبيه ، قال : وحدّثت عن محمّد بن جرير ، عن محمّد بن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن رحالة ، قال : وعن ابن جرير ، حدّثنا ابن بشار ، حدّثنا محمّد بن جعفر ، حدّثنا عوف ، عن ميمون أبي عبد الله ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، دخل حديث بعضهم في بعض ، قالوا : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر يسير بنا ليلاً ، وعامر بن الأكوع معنا ، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هينهاتك ؟ وكان عامر شاعراً فنزل يحدو بالقوم وهو يرجز لهم :
* اللهُمَّ لولا أنتَ ما اهتدينا * ولا تصدّقنا ولا صلّينا *
* انّ الذين هم بغوا علينا * ونحن عن فضلك ما استغنينا *
* فاغفر فداء لك ما اقتفينا * وثبّت الأقدام إن لاقينا *
* وألقيَنْ سكينةً علينا * إنّا إذا صيح بنا أتينا *
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ هذا ؟ " . قالوا : عامر بن الأكوع . فقال : «غفر لك ربّك » . فقال رجل من القوم : وجبت يا نبي الله ، لو امتعتنا به . وذلك أنّ رسول الله ( عليه السلام ) ما استغفر قطّ لرجل يخصّه إلاّ استشهد . قالوا : فلمّا قدمنا خيبر وتصافّ القوم ، خرج يهودي ، فبرز إليه عامر ، وقال : قد علمت خيبر إنّي عامر شاك السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف اليهودي في ترس عامر ، ووقع سيف عامر عليه ، وأصاب ركبة نفسه ، وساقه ، فمات منها ، قال سلمة بن الأكوع : فمررت على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون : بطل عمل عامر ، فأتيت نبي الله وأنا شاحب أبكي ، فقلت : يا رسول الله أبطلَ عمل عامر ؟ فقال : " ومَنْ قال ذاك ؟ " قلت : بعض أصحابك . قال : " كذب من قال ، بل له أجره مرّتين ، إنّه لجاهد مجاهد " .
قال : فحاصرناهم حتّى أصابتنا مخمصة شديدة ثمّ إنّ الله تعالى فتحها علينا ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى اللواء عمر بن الخطّاب ، ونهض من نهض معه من الناس ، فلقوا أهل خيبر ، فانكشف عمر ، وأصحابه ، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحينه أصحابه ، ويحينهم ، وكان رسول الله قد أخذته الشقيقة ، فلم يخرج إلى النّاس ، فأخذ أبو بكر راية رسول الله ، ثمّ نهض فقاتل قتالاً شديداً ، ثمّ رجع ، فأخذها عمر ، فقاتل قتالاً شديداً ، وهو أشدّ من القتال الأوّل ، ثمّ رجع ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أما والله لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ، ورسوله ، ويحبّه الله ، ورسوله يأخذها عنوة " .
وليس ثَمّ علي ، فلمّا كان الغد تطاول لها أبو بكر وعمر وقريش رجاء كلّ واحد منهم أن يكون صاحب ذلك ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع إلى علي ، فدعاه ، فجاء علي على بعير له حتّى أناخ قريباً من خباء رسول الله ، وهو أرمد قد عصب عينيه بشقة برد قطري ، قال سلمة : فجئت به أقوده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله : " ما لكَ ؟ " . قال : رمدت . فقال : «إدن منّي » . فدنا منه فتفل في عينيه ، فما وجعهما بعد حتّى مضى لسبيله ، ثمّ أعطاه الراية ، فنهض بالراية وعليه حلّة أُرجوان حمراء ، قد أخرج حملها ، فأتى مدينة خيبر ، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفر ، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه ، وهو يقول : * قد علمت خيبر أنّي مرحب * شاكي السلاح بطلٌ مجرّب *
* أطعن أحياناً * وحيناً أضرب *
*إذا الحروب أقبلت تلهّب * كان حمائي كالحمى لا يقرب *
فبرز إليه علي رضي الله عنه ، وقال :
* أنا الّذي سمّتني أُمّي حيدره * كليثِ غابات شديد قسوره *
فاختلفا ضربتين ، فبدره علي ، فضربه ، فقدَّ الحجر والمغفرة ، وفلق رأسه حتّى أخذ السيف في الأضراس ، وأخذ المدينة ، وكان الفتح على يديه ، ثمّ خرج بعد مرحب أخوه ياسر بن نحر ، وهو يقول :
* قد علمت خيبر أنّي ياسر * شاكي السلاح بطل مغاور *
* إذا الليوث أقبلت تبادر * وأحجمت عن صولتي المغاور *
وهو يقول : هل من مبارز ؟ فخرج إليه الزبير بن العوّام ، وهو يقول :
* قد علمت خيبر أنّي زبار * قرم لقرم غير نكس فرار *
* ابن حماة المجد ابن الأخيار * ياسر لا يغررْك جمع الكفّار *
فقالت أُمّه صفية بنت عبد المطّلب : أيقتل ابني يا رسول الله ؟ فقال : " بل ابنك يقتله إن شاء الله " ثمّ التقيا ، فقتله الزبير ، فقال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله ( عليه السلام ) برايته ، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه رجل من اليهود ، فطرح ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن ، فتترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده ، وهو يقاتل حتّى فتح الله تعالى عليه ، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه .
ثمّ لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الحُصون حُصناً حُصناً ، ويجوز الأموال حتّى انتهوا إلى حُصن الوطيح والسلالم ، وكان آخر حصون خيبر افتتح ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة ، فلمّا أمسى النّاس يوم الفتح أوقدوا نيراناً كثيرة ، فقال رسول الله : " على أيّ شيء توقدون ؟ " قالوا : على لحم ، قال : " على أيّ لحم ؟ " قالوا : لحم الحمر الأنسية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اهريقوها واكسروها " . فقال رجل : أَوَ نهرّقها ونغسلها ؟ فقال : " أو ذاك " " .
قال ابن إسحاق : " ولمّا افتتح رسول الله ( عليه السلام ) القموص حصن بني أبي الحقيق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حي بن أحطب ، وبأُخرى معها ، فمرّ بهما بلال ، وهو الذي جاء بهما على قتلى من قُتل من اليهود ، فلمّا رأتهما التي مع صفية ، صاحت ، وصكّت وجهها ، وحثت التراب على رأسها ، فلمّا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أغربوا عنّي هذه الشيطانة " . وأمر بصفية ، فجرت خلفه وألقى عليها رداءه ، فعلم المسلمون أنّ رسول الله قد اصطفاها لنفسه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال لمّا رأى من تلك اليهودية ما رأى : " أَنُزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما ؟ " وكانت صفية قد رأت في المنام ، وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أنّ قمراً وقع في حجرها ، فعرضت رؤيتها على زوجها ، فقال : ما هذا إلاّ أنّك تمنين مَلِك الحجاز محمّداً ، فلطم وجهها لطمة اخضّرت عينها منها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها .
فسألها : " ما هو ؟ " فأخبرته هذا الخبر ، وأتى رسول الله بزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وكان عنده كنز بني النضير ، فسأله ، فجحده أن يكون يعلم مكانه ، فأتى رسول الله برجل من اليهود ، فقال لرسول الله ( عليه السلام ) : إنّي قد رأيت كنانة يطيف هذه الخزنة كلّ غداة ، فقال رسول الله لكنانة : " أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك " . قال : نعم .
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخزنة ، فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثمّ سأله ما بقي ، فأبى أن يؤدّيه ، فأمر به رسول الله الزبير بن العوّام . فقال : " عذّبه حتّى تستأصل ما عنده " .
فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتّى أشرف على نفسه ، ثمّ دفعه رسول الله إلى محمّد ابن مسلمة ، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة ، وكانت اليهود ألقت عليه حجراً عند حصن ناعم ، فقتله ، كان أوّل حصن افتتح من حصون خيبر .
قالوا : فلمّا سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، بعثوا إلى رسول الله أن يسترهم ويحقن لهم دماءهم ويخلّوا له الأموال ، ففعل ، ثمّ إنّ أهل خيبر سألوا رسول الله أن يعاطيهم الأموال على النصف ففعل على إنّا إن شئنا فخرجنا أخرجناكم ، وصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، وكانت خيبر فيئاً للمسلمين ، وكانت فدك خالصة لرسول الله ( عليه السلام ) لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب .
فلما اطمئنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم ، شاة مصلية ، وقد سألت ، أي عضو من الشاة أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها السمّ ، وسمّت سائر الشاة ، ثمّ جاءت بها ، فلمّا وضعتها بين يدي رسول الله ، تناول الذراع ، فأخذها ، فلاك منها مضغة ، فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، وقد أخذ منها كما أخذ منها رسول الله ، فأما بشر فأساغها ، وأمّا رسول الله فلفظها ، ثمّ قال : " إنّ هذا العظم ليخبرني أنّه مسموم " . ثمّ دعاها ، فاعترفت ، فقال : " ما حملك على ذلك ؟ " قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان نبيّاً فسيخبر ، وإن كان ملكاً استرحت منه . قال : فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل .
قال : ودخلت أُم بشر بن البراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعوده في مرضه الذي توفى فيه ، فقال : " يا أُمّ بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعادني ، فهذا أوان انقطاع أبهري " " .
وكان المسلمون يرون أنّ رسول الله مات شهيداً مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوّة .