لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةٗ تَأۡخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمۡ هَٰذِهِۦ وَكَفَّ أَيۡدِيَ ٱلنَّاسِ عَنكُمۡ وَلِتَكُونَ ءَايَةٗ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَيَهۡدِيَكُمۡ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا} (20)

قوله تعالى : { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } يعني المغانم التي تغنمونها من الفتوحات التي تفتح لكم إلى يوم القيامة { فعجل لكم هذه } يعني مغانم خيبر وفيه إشارة إلى كثرة الفتوحات والغنائم التي يعطيهم الله عز وجل في المستقبل وإنما عجل لهم هذه كعجالة الراكب أعجلها الله لكم وهي في جنب ما وعدكم الله به من الغنائم كالقليل من الكثير { وكف أيدي الناس عنكم } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها ، همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة ، فكف الله عز وجل أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم . وقيل : المعنى إن الله عز وجل كف أيدي أهل مكة بالصلح عنكم لتمام المنّة عليكم { ولتكون آية للمؤمنين } هو عطف على ما تقدم تقديره ، فعجل لكم الغنائم لتنتفعوا بها ، ولتكون آية للمؤمنين . يعني : ولتحصل من بعدكم آية تدلهم على أن ما وهبكم الله يحصل مثله لهم . وقيل : لتكون آية للمؤمنين دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الغيوب ، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم ويعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم { ويهديكم صراطاً مستقيماً } يعني ويهديكم إلى دين الإسلام ويثبتكم عليه ويزيدكم بصيرة ويقيناً بصلح الحديبية وفتح خيبر .

( ذكر غزوة خيبر )

وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع ( ق ) . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذاناً كف عنهم . وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم . قال : فخرجنا إلى خيبر فلما انتهينا إليهم ليلاً فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال فخرجوا علينا بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا محمد والخميس فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين » ( م )عن سلمة بن الأركع قال : خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم :

تالله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

ونحن عن فضلك ما استغنينا *** فثبت الأقدام إن لاقينا

وأنزلن سكينة علينا **** . . .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من هذا ؟ » قال : أنا عامر . قال : «غفر لك ربك » قال : وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد . قال : فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له : يا نبي الله لولا متعتنا بعامر . قال : فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول :

قد علمت خيبر أني مرحب *** شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلتهب *** . . .

قال : وبرز له عمي عامر فقال :

قد علمت خيبر أني عامر *** شاكي السلاح بطل مغامر

قال : فاختلفا بضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر ، وذهب عامر يسفل له ، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله ، فكانت فيها نفسه . قال سلمة : فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : بطل عمل عامر قتل نفسه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت : يا رسول الله بطل عمل عمي عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال ذلك ؟ قلت : ناس من أصحابك . قال : كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين . ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . قال : فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبصق في عينيه فبرأ ، وأعطاه الراية فخرج مرحب فقال :

قد علمت خيبر أني مرحب *** شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلتهب*** . . .

فقال علي رضي الله عنه :

أنا الذي سمتني أمي حيدره *** كليث غابات كريه المنظره

أوفيهم بالصاع كيل السندره **** . . . .

قال فضرب مرحباً فقتله ثم كان الفتح على يده . أخرجه مسلم بهذا اللفظ وقد أخرج البخاري طرفاً منه قال البغوي وقد روى حديث فتح خيبر جماعة منهم سهل بن سعد وأنس بن مالك وأبو هريرة يزيدون وينقصون فيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس ، فأخذ أبو بكر راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً ، ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول ، ثم رجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ويفتح الله على يديه ، فدعا علياً فأعطاه الراية وقال له : امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فأتى خيبر فخرج مرحب صاحب الحصن وعلى رأسه مغفر من حجر قد نقبه مثل البيضة وهو يرتجز ، فخرج إليه علي بن أبي طالب ، فضربه فقد الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس ، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يرتجز ، فخرج إليه الزبير بن العوام فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب : يقتل ابني يا رسول الله ؟ قال : ابنك يقتله إن شاء الله . ثم التقيا ، فقتله الزبير . ثم كان الفتح ثم لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الحصون ويقتل المقاتلة ويسبي الذرية ويحوز الأموال » . قال محمد بن إسحاق : فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقت اليهود عليه حجراً فقتله ثم فتح حصن ابن أبي الحقيق فأصاب سبايا منهم صفية بنت حيي بن أخطب جاء بها بلال وبأخرى معها فمر بها على قتلى من قتلى يهود ، فلما رأتهم التي مع صفية ، صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «اعزبوا عني هذه الشيطانة » وأمر بصفية فجهزت خلفه وألقى عليها رداءه ، فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال لما رأى من تلك اليهودية ما رأى أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمراً وقع في حجرها ، فعرضت رؤياها على زوجها فقال : ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمداً ثم لطم وجهها لطمة اخضرت منها عينها ، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها فسألها عن ذلك ما هو ، فأخبرته الخبر ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجها كنانة بن الربيع وكان عنده كنز بني النضير فسأله ، فجحد أن يكون يعلم مكانه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من اليهود فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني رأيت كنانة يطوف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك أنقتلك قال : نعم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقي ، فأبى أن يؤديه إليه فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير بن العوام أن يعذبه حتى يستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزنده على صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة » ( ق )عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر بياض فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل القرية قال : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاثاً . قال : وخرج القوم إلى أعمالهم فقالوا محمد والخميس يعني الجيش . قال : فأصبناها عنوة فجمع السبي فجاء دحية فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطني جارية من السبي . قال : اذهب فخذ جارية ، فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك قال : ادعوها فجاء بها ، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال : خذ جارية من السبي غيرها ، فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها . فقال له ثابت : يا أبا حمزة ما أصدقها قال نفسها أعتقها وتزوجها ، حتى إذا كان بالطريق ، جهزتها له أم سليم ، فأهدتها له من الليل وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً فقال : من كان عنده شيء فليجئ به . وبسط نطعاً فجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الآخر يجيء بالسمن قال : وأحسبه ذكر السويق . قال : فحاسوا حيساً فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ق ) . عن عبد الله بن أبي أوفى قال : «أصابتنا مجاعة ليالي خيبر ، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكفئوا القدور ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً » . فقال أناس : نهى عنها لأنها لم تخمس وقال آخرون : إنما نهى عنها البتة ( ق )عن أنس : «أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت : أردت لأقتلك فقال : ما كان الله ليسلطك على ذلك . أو قال علي قالوا أنقلتها قال لا فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم » .

قال محمد بن إسماعيل قال يونس عن الزهري قال عروة قالت عائشة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه : «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم » ( خ ) . عن عائشة قالت : «لما فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من التمر »( ق )عن ابن عمر «أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض لما ظهر عليها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين فأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها على أن يكفوا العمل ولهم نصف التمر ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها . حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء . قال محمد بن إسحاق : لما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يحقن دماءهم وأن يسيرهم ويخلوا له الأموال ففعل بهم ثم إن أهل خيبر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم على النصف ففعل على أن لنا إذا شئنا إخراجكم فصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت خيبر للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب ، فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم اليهودية شاة مصلية ، يعني مشوية ، وسألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها السم ، وسمّت سائر الشاة ، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع فأخذها ، فلاكَ منها قطعة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور ، فأخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما بشر فأساغها يعني ابتلعها وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ، ثم قال : إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم . ثم دعا بها فاعترفت فقال : ما حملك على ذلك ؟ فقالت : بلغت من قومي ما لا يخفى عليك فقلت إن كان ملكاً استرحنا منه وإن كان نبياً فسيخبرنا . فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات بشر على مرضه الذي توفي فيه . فقال : " يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت مع ابنك تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " . فكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوة .

عن عبيد الله بن سلمان أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي فجعل الناس يتبايعون غنائمهم فجاء رجل فقال : يا رسول الله لقد ربحت اليوم ربحاً ما ربحه أحد من أهل هذا الوادي . قال : ويحك وما ربحت قال ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلاثمائة أوقية . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئك بخير ربح ؟ قال : وما هو يا رسول الله قال : ركعتان بعد الصلاة " أخرجه أبو داود .