{ في جيدها } في عنقها ، وجمعه أجياد ، { حبل من مسد } واختلفوا فيه ، قال ابن عباس ، وعروة بن الزبير : سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعاً ، تدخل في فيها وتخرج من دبرها ، ويكون سائرها في عنقها ، وأصله من المسد وهو الفتل ، والمسد ما فتل وأحكم من أي شيء كان ، يعني : السلسلة التي في عنقها فتلت من الحديد فتلاً محكماً . وروى الأعمش عن مجاهد : { من مسد } أي من حديد ، والمسد : الحديدة التي تكون في البكرة ، يقال لها : المحور . وقال الشعبي ومقاتل : من ليف . قال الضحاك وغيره : في الدنيا من ليف ، وفي الآخرة من نار . وذلك الليف هو الحبل الذي كانت تحتطب به ، فبينما هي ذات يوم حاملة حزمة فأعيت فقعدت على حجر تستريح ، فأتاها ملك فجذبها من خلفها فأهلكها . قال ابن زيد : حبل من شجر ينبت باليمن يقال له مسد . قال قتادة : قلادة من ودع . وقال الحسن : كانت خرزات في عنقها فاخرة ، وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة في عنقها فاخرة ، فقالت : لأنفقنها في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وحالة كونها : ( في جيدها حبل من مسد ) . . أي من ليف . . تشد هي به في النار . أو هي الحبل الذي تشد به الحطب . على المعنى الحقيقي إن كان المراد هو الشوك . أو المعنى المجازي إن كان حمل الحطب كناية عن حمل الشر والسعي بالأذى والوقيعة .
وفي الأداء التعبيري للسورة تناسق دقيق ملحوظ مع موضوعها وجوها ، نقتطف في بيانه سطورا من كتاب : " مشاهد القيامة في القرآن " نمهد بها لوقع هذه السورة في نفس أم جميل التي ذعرت لها وجن جنونها :
" أبو لهب . سيصلى نارا ذات لهب . . وامرأته حمالة الحطب . ستصلاها وفي عنقها حبل من مسد . .
" تناسق في اللفظ ، وتناسق في الصورة . فجنهم هنا نار ذات لهب . يصلاها أبو لهب ! وامرأته تحمل الحطب وتلقيه في طريق محمد لإيذائه ( بمعناه الحقيقي أو المجازي " . . والحطب مما يوقد به اللهب . وهي تحزم الحطب بحبل . فعذابها في النار ذات اللهب أن تغل بحبل من مسد . ليتم الجزاء من جنس العمل ، وتتم الصورة بمحتوياتها الساذجة : الحطب والحبل . والنار واللهب . يصلى به أبو لهب وامرأته حمالة الحطب ! وتناسق من لون آخر . في جرس الكلمات ، مع الصوت الذي يحدثه شد أحمال الحطب وجذب العنق بحبل من مسد . اقرأ : ( تبت يدا أبي لهب وتب )تجد فيها عنف الحزم والشد ! الشبيه بحزم الحطب وشده . والشبيه كذلك بغل العنق وجذبه . والشبيه بجو الحنق والتهديد الشائع في السورة .
" وهكذا يلتقي تناسق الجرس الموسيقي ، مع حركة العمل الصوتية ، بتناسق الصور في جزئياتها المتناسقة ، بتناسق الجناس اللفظي ومراعاة النظير في التعبير ، ويتسق مع جو السورة وسبب النزول . ويتم هذا كله في خمس فقرات قصار ، وفي سورة من أقصر سور القرآن " .
هذا التناسق القوي في التعبير جعل أم جميل تحسب أن الرسول [ ص ] قد هجاها بشعر . وبخاصة حين انتشرت هذه السورة وما تحمله من تهديد ومذمة وتصوير زري لأم جميل خاصة . تصوير يثير السخرية من امرأة معجبة بنفسها ، مدلة بحسبها ونسبها . ثم ترتسم لها هذه الصورة : ( حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد ) ! في هذا الأسلوب القوي الذي يشيع عند العرب !
قال ابن إسحاق : فذكر لي أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن ، أتت رسول الله [ ص ] وهو جالس في المسجد عند الكعبة ، ومعه أبو بكر الصديق ، وفي يدها فهر [ أي بمقدار ملء الكف ] من حجارة . فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله [ ص ] فلا ترى إلا أبا بكر . فقالت : يا أبا بكر . أين صاحبك ? قد بلغني أنه يهجوني . والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه . أما والله واني لشاعرة ! ثم قالت :
ثم انصرفت . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك ? فقال : ما رأتني ، لقد أخذ الله ببصرها عني . .
وروى الحافظ أبو بكر البزار - بإسناده - عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( تبت يدا أبي لهب )جاءت امرأة أبي لهب ، ورسول الله [ ص ] جالس ومعه أبو بكر . فقال له أبو بكر : لو تنحيت لا تؤذيك بشيء ! فقال رسول الله [ ص ] : " إنه سيحال بيني وبينها " . . فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ، فقالت : يا أبا بكر ، هجانا صاحبك . فقال أبو بكر : لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به ، فقالت : إنك لمصدق . فلما ولت قال أبو بكر : ما رأتك ? قال : " لا . ما زال ملك يسترني حتى ولت " . .
فهكذا بلغ منها الغيظ والحنق ، من سيرورة هذا القول الذي حسبته شعرا [ وكان الهجاء لا يكون إلا شعرا ] مما نفاه لها أبو بكر وهو صادق ! ولكن الصورة الزرية المثيرة للسخرية التي شاعت في آياتها ، قد سجلت في الكتاب الخالد ، وسجلتها صفحات الوجود أيضا تنطق بغضب الله وحربه لأبي لهب وامرأته جزاء الكيد لدعوة الله ورسوله ، والتباب والهلاك والسخرية والزراية جزاء الكائدين لدعوة الله في الدنيا ، والنار في الآخرة جزاء وفاقا ، والذل الذي يشير إليه الحبل في الدنيا والآخرة جميعا . . .
وقوله تعالى : { في جيدها حبل من مسد } قال ابن عباس ، والضحاك والسدي ، وابن زيد : الإشارة إلى الحبل حقيقة ، وهو الذي ربطت به الشوك وحطبه ، قال السدي : ( والمسد ) : الليف ، وقيل : ليف المقل ، ذكره أبو الفتح ، وقال ابن زيد : هو شجر باليمن يسمى المسد ، تصنع منه الحبال ، وقال النابغة :
مقذوفة بدخيس النحض بازلها *** له صريف صريف القعو بالمسد{[12022]}
القعو : البكرة ، والمسد : الحبل . وقال عروة بن الزبير ، ومجاهد وغيرهما : هذا الكلام استعارة ، والمراد سلسلة من حديد في جهنم ، ذرعها سبعون ذراعا ، ونحو هذا من العبارات ، وقال قتادة : { حبل من مسد{ : قلادة من ودع ، قال ابن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة ، فقالت : لأنفقنها على عداوة محمد .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها ، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث ، وروي في الحديث أن هذه السورة لما نزلت وقرئت بلغت أم جميل ، فجاءت أبا بكر رضي الله عنه وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني ، ولأفعلن ولأفعلن ، وإني لشاعرة ، وقد قلت فيه :
فسكت أبو بكر ومضت هي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني ، وكفى الله شرها{[12023]} " .
وجملة : { في جيدها حبل من مسد } صفة ثانية أو حال ثانية وذلك إخبار بما تعامل به في الآخرة ، أي جعل لها حبل في عنقها تحمِل فيه الحطب في جهنم لإِسعار النار على زوجها جزاء مماثلاً لعملها في الدنيا الذي أغضب الله تعالى عليها .
والجِيد : العُنق ، وغلَب في الاستعمال على عنق المرأة وعلى محل القلادة منه فَقَلّ أن يذكر العُنق في وصف النساء في الشعر العربي إلا إذا كان عُنُقاً موصوفاً بالحسن وقد جمعهما امرؤ القيس في قوله :
وجيدٍ كجِيد الرِئم ليس بفاحش *** إذا هي نَصَّتْه ولا بمُعَطَّل
قال السهيلي في « الروض » : « والمعروف أن يذكر العنق إذا ذكر الحَلي أو الحُسن فإنما حَسُن هنا ذِكر الجيد في حكم البلاغة لأنها امرأة والنساء تحلي أجيادَهن وأم جميل لا حلي لها في الآخرة إلا الحَبل المجعول في عنقها فلما أقيم لها ذلك مقام الحَلي ذُكر الجيد معه ، ألا ترى إلى قول الأعشى :
يومَ تبدي لنا قتيلةُ عن جي *** د أسيل تزينُه الأطواق
ولم يقل عنقها ولو قال لكان غثاً من الكلام . اه .
الحَجْلُ للرِّجْل والتاجُ المُنيفُ لما *** فوقَ الحِجَاج وعقْد الدرّ للعنق
فإنما حسنه ما بين العقد والعنق من الجناس إتماماً للمجانسة التي بين الحَجْل والرجل ، والتاج والحجاج ، وهو مقصود الشاعر .
والحبْل : ما يربط به الأشياء التي يراد اتصالُ بعضها ببعض وتقيدُ به الدابة والمسجون كيلا يبرح من المكان ، وهو ضفير من الليف أو من سُيور جلد في طول متفاوت على حسب قوة ما يشد به أو يربط في وتدٍ أو حلقة أو شجرة بحيث يمنع المربوط به من مغادرة موضعه إلى غيره على بعد يراد ، وتربط به قلوع السفن وتشد به السفن في الأرض في الشواطىء ، وتقدم في قوله تعالى : { واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً } وقوله : { إلا بحبل من اللَّه وحبل من الناس } كلاها في سورة آل عمران ( 103 112 ) ، ويقال : حبله إذا ربطه .
والمسدّ : ليف من ليف اليمن شديد ، والحِبال التي تفتل منه تكون قوية وصُلبة .
وقدم الخبر من قوله : { في جيدها } للاهتمام بوصف تلك الحالة الفظيعة التي عوضت فيها بحبل في جيدها عن العقد الذي كانت تحلي به جيدها في الدنيا فتربط به إذ قد كانت هي وزوجها من أهل الثراء وسادة أهل البطحاء ، وقد ماتت أم جميل على الشرك .