وعقب هذا الإيضاح الحاسم في مفرق الطريق ، بإعلان الوحدانية المطلقة لذات الله وصفاته ، يجيء الحديث عن وحدانية الجهة التي تتنزل منها الأديان والكتب والرسالات . أي التي يتنزل منها المنهج الذي يصرف حياة البشر في جميع الأجيال :
( نزل عليك الكتاب بالحق - مصدقا لما بين يديه - وأنزل التوراة والإنجيل من قبل - هدى للناس - وأنزل الفرقان . إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد . والله عزيز ذو انتقام ) .
وتتضمن هذه الآية في شطرها الأول جملة حقائق أساسية في التصور الاعتقادي ، وفي الرد كذلك على أهل الكتاب وغيرهم من المنكرين لرسالة محمد [ ص ] وصحة ما جاء به من عند الله .
فهي تقرر وحدة الجهة التي تتنزل منها الكتب على الرسل . فالله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، هو الذي إنزل هذا القرآن - عليك - كما أنه أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل . وإذن فلا اختلاط ولا امتزاج بين الألوهية والعبودية . إنما هناك إله واحد ينزل الكتب على المختارين من عباده . وهناك عبيد يتلقون . وهم عبيد لله ولو كانوا أنبياء مرسلين .
وهي تقرر وحدة الدين ووحدة الحق الذي تتضمنه الكتب المنزلة من عند الله . فهذا الكتاب نزله - عليك -( بالحق ) . . ( مصدقا لما بين يديه ) . . من التوراة والإنجيل . .
وتنزيل الله الكتاب بواسطة الملك جبريل عليه السلام ، و { الكتاب } في هذا الموضع القرآن باتفاق من المفسرين ، وقرأ جمهور الناس «نزَّل عليك » بشد الزاي «الكتابَ » بنصب الباء ، وقرأ إبراهيم النخعي «نزَل عليك الكتابُ » بتخفيف الزاي ورفع الباء ، وهذه الآية تقتضي أن قوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } جملة مستقلة منحازة ، وقوله { بالحق }{[2908]} يحتمل معنيين : إحداهما أن يكون المعنى ضمن الحقائق من خيره وأمره ونهيه ومواعظه ، فالباء على حدها في قوله : جاءني كتاب بخبر كذا وكذا أي ذلك الخبر مقتص فيه ، والثاني : أن يكون المعنى أنه نزل الكتاب باستحقاق أن ينزل لما فيه من المصلحة الشاملة وليس ذلك على أنه واجب على الله تعالى أن يفعله ، فالباء في هذا المعنى على حدها في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق }{[2909]} وقال محمد بن جعفر بن الزبير{[2910]} : معنى قوله : { بالحق } أي مما أختلف فيه أهل الكتاب واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون ، وهذا داخل في المعنى الأول ، و { مصدقاً } حال مؤكدة وهي رتبة غير منتقلة لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه من كتب الله{[2911]} فهو كقول ابن دارة{[2912]} : [ البسيط ]
أنا ابْنُ دارةَ معروفاً بها نسبي . . . وَهَلْ بِدَارَة يا للناسِ مِنْ عارِ ؟
وما بين يديه هي التوراة والإنجيل وسائر كتب الله التي تلقيت من شرعنا كالزبور والصحف ، وما بين اليد في هذه الحوادث هو المتقدم من الزمن .
و { التوراة والإنجيل } اسمان أصلهما عبراني لكن النحاة وأهل اللسان حملوها على الاشتقاق العربي فقالوا في التوراة : إنها من ورى الزند{[2913]} يري{[2914]} إذا قدح وظهرت ناره يقال أوريته فوري ، ومنه قوله تعالى : { فالموريات }{[2915]} وقوله : { أفرأيتم النار التي تورون }{[2916]} قال أبو علي ، فأما قولهم : وريت بك زنادي على وزن ، فعلت فزعم أبو عثمان أنه استعمل في هذا الكلام فقط ولم يجاوز به غيره ، وتوراة عند الخليل وسيبويه وسائر البصريين فوعلة كحوقلة وورية قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تولج وأصله وولج من : ولجت ، وحكى الزجاج عن بعض الكوفيين : أن توراة أصلها تفعلة بفتح العين ، من : وريت بك زنادي ، وإنما ينبغي أن تكون من : أوريت قال فهي تورية ، وقال بعضهم : يصلح أن تكون تفعلة بكسر العين مثل توصية [ ثم ردت إلى تفعلة بفتح العين ، قال الزجاج وكأنه يجيز فى [ توصية ]{[2917]} توصأة وذلك غير مسموع ، وعلى كل قول فالياء لما انفتح ما قبلها وتحركت هي انقلبت ألفاً فقيل توراة ، ورجح أبو علي قول البصريين وضعفه غيره ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم «التورَاة » مفتوحة الراء ، وكان حمزة ونافع يلفظان بالراء بين اللفظين بين الفتح والكسر وكذلك فعلا في قوله { من الأبرار } و { من الأشرار } [ ص : 62 ] و { من قرار }{[2918]} إذا كان الحرف مخفوضاً ، وروى المسيبي{[2919]} عن نافع فتح الراء من التوراة ، وروى ورش عنه كسرها ، وكان أبو عمرو والكسائي يكسران الراء من التوراة ويميلان من { الأبرار } وغيرها أشد من إمالة حمزة ونافع .
وقالوا في الإنجيل : إنه إفعيل من النجل وهو الماء الذي ينز{[2920]} من الأرض ، قال الخليل : استنجلت الأرض وبها انجال إذا خرج منها الماء والنجل أيضاً الولد والنسل قاله الخليل وغيره ، ونجله أبوه أي ولده ، ومن ذلك قول الأعشى{[2921]} : [ المنسرح ]
أنجبُ أيّام والداه به . . . اذ نَجَلاهُ فَنِعمَ مَا نَجَلا
قال ابن سيده عن أبي علي : معنى قوله أيام والداه به كما تقول : أنا بالله وبك ، وقال أبو الفتح : معنى البيت ، أنجب والداه به أيام إذ نجلاه فهو كقولك حينئذ ويومئذ لكنه حال بالفاعل بين المضاف الذي هو أيام وبين المضاف إليه الذي هو إذ . ويروى هذا البيت أنجب أيام والديه ، والنجل الرمي بالشيء وذلك أيضاً من معنى الظهور وفراق شيء شيئاً ، وحكى أبو القاسم الزجاجي{[2922]} في نوادره : أن الوالد يقال له ، نجل وأن اللفظة من الأضداد وأما بيت زهير فالرواية الصحيحة فيه :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وكل فحل له نجل{[2923]}
أي ولد كريم ونسل ، وروى الأصمعي فيما حكى [ عنه ]{[2924]} : وكل فرع له نجل ، وهذا لا يتجه إلى على تسمية الوالد نجلاً . وقال الزجاج : { الإنجيل } مأخوذ من النجل وهو الأصل فهذا ينحو إلى ما حكى أبو القاسم قال أبو الفتح : ف { التوراة } من وري الزناد{[2925]} ، إذا ظهرت ناره ، و { الإنجيل } من نجل إذا ظهر ولده ، أو من ظهور الماء من الأرض فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ، وإما من التوراة ، و { الفرقان } من الفرق بين الحق والباطل ، فحروفها مختلفة ، والمعنى قريب بعضه من بعض ، إذ كلها معناه ، ظهور الحق ، وبيان الشرع ، وفصله من غيره من الأباطيل ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «الأنجيل » بفتح الهمزة ، وذلك لا يتجه في كلام العرب ، ولكن يحميه مكان الحسن من الفصاحة ، وإنه لا يقرأ إلا بما روى ، وأراه نحا به نحو الأسماء الأعجمية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.