الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ} (3)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{نزل عليك الكتاب} يا محمد {بالحق}، لم ينزله باطلا يعني القرآن. {مصدقا لما بين يديه} من الكتاب، يقول: محمد، عليه السلام، مصدق للكتب التي كانت قبله. {وأنزل التوراة} على موسى، {والإنجيل} على عيسى...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول جلّ ثناؤه: يا محمد، إن ربك وربّ عيسى ورب كل شيء، هو الرب الذي أنزل عليك {الكِتَابَ} يعني بالكتاب: القرآن. {بالحقّ} يعني: بالصدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل، وفيما خالفك فيه محاجُّوك من نصارى أهل نجران، وسائر أهل الشرك غيرهم. {مُصَدّقا لما بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني بذلك القرآن، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رسل الله من عنده، لأن منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير...

عن محمد بن جعفر بن الزبير: {نَزّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ} أي بالصدق فيما اختلفوا فيه...

عن قتادة: {نَزّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يقول: القرآن مصدّقا لما بين يديه من الكتب التي قد خلت قبله...

{وَأنْزَلَ التّوْرَاةَ والإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنّاسِ}.

يعني بذلك جل ثناؤه: وأنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى.

{مِنْ قَبْلُ} يقول: من قبل الكتاب الذي نزّله عليك. ويعني بقوله: {هُدًى للنّاسِ} بيانا للناس من الله، فيما اختلفوا فيه من توحيد الله وتصديق رسله، ومفيدا يا محمد أنك نبيي ورسولي، وفي غير ذلك من شرائع دين الله...

{وأنْزَلَ الفُرْقانَ} يعني جل ثناؤه بذلك: وأنزل الفصل بين الحقّ والباطل، فيما اختلفت فيه الأحزاب وأهل الملل في أمر عيسى وغيره. وقد بينا فيما مضى أن الفُرقان إنما هو الفُعلان من قولهم: فرق الله بين الحقّ والباطل، يفصل بينهما بنصره بالحق [لعل الصواب: الحق] على الباطل إما بالحجة البالغة، وإما بالقهر والغلبة بالأيدي والقوّة.

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أن بعضهم وجه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى، وبعضهم إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع... عن محمد بن جعفر بن الزبير: {وأنْزلَ الفُرْقانَ} أي الفصل بين الحقّ والباطل، فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره... عن قتادة: {وَأَنْزَلَ الفُرْقَانَ} هو القرآن أنزله على محمد وفرق به بين الحقّ والباطل، فأحلّ فيه حلاله، وحرّم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحدّ فيه حدوده، وفرض فيه فرائضه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته...

والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع، وأن يكون معنى الفرقان في هذا الموضع: فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذي حاجوه في أمر عيسى وفي غير ذلك من أموره بالحجة البالغة القاطعة عُذْرَهم وعُذْرَ نظرائهم من أهل الكفر بالله.

وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأن إخبار الله عن تنزيله القرآن قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية قد مضى بقوله: {نَزّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ولا شك أن ذلك الكتاب هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرّة أخرى، إذ لا فائدة في تكريره، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداء.

{إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَاللّهُ عَزِيزٌ ذو انْتِقام}.

يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته، وأن عيسى عبد له واتخذوا المسيح إلها وربا، أو ادّعوه لله ولدا، {لهم عَذَابٌ} من الله {شَدِيدٌ} يوم القيامة، والذين كفروا هم الذين جحدوا آيات الله. وآيات الله: أعلام الله وأدلته وحُججه.

وهذا القول من الله عزّ وجلّ، ينبئ عن معنى قوله: {وأنْزَلَ الفُرْقَانَ} أنه معنيّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الحقّ على أهل الباطل لأنه عقب ذلك بقوله: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ} يعني: أن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقان الذي أنزله فرقا بين المحقّ والمبطل، {لهمْ عذابٌ شديدٌ} وعيد من الله لمن عاند الحقّ بعد وضوحه له، وخالف سبيل الهدى بعد قيام الحجة عليه. ثم أخبرهم أنه عزيز في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم، ولا يحول بينه وبينه حائل، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحد، وأنه ذو انتقام ممن جحد حججه وأدلته، بعد ثبوتها عليها، وبعد وضوحها له ومعرفته بها.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{نزل عليك الكتاب بالحق} أي هو الحق نفسه، حجة مجعولة، وآية معجزة، أيس العرب عن أن يعارضوه، أو يأتوا بمثله، وتحققوا عند كل آية أنه من عند الله، إلا من أعرض عنه وكابر وعاند. وقيل: {بالحق} أي بالصدق والعدل، وقيل: {بالحق} الذي لله عليهم وما يكون لبعضهم على بعض.

{مصدقا لما بين يديه}: موافقا لما قبله من الكتب السماوية، وهي غير مختلفة، ولا متفاوتة. وفيه دلالة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أخبر أنه موافق لتلك الكتب غير مخالف لها، ولو كان على خلاف ذلك لتكلفوا إظهار موضع الخلاف، فإن لم يفعلوا ذلك دل أنهم عرفوا أنه من الله وأن محمدا رسوله، لكنهم كابروا، وعاندوا...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}؛ القرآن كان ينزل نجوماً، شيئاً بعد شيء. والتنزيل يكون مرّة بعد مرَّة، وقال: {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}؛ لأنهما نزلتا دفعة.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: بالعدل مما استحقه عليك من أثقال النبوة. والثاني: بالعدل فيما اختصك به من شرف الرسالة. وإن قيل بأنه الصدق ففيه وجهان: أحدهما: بالصدق فيما تضمنه من أخبار القرون الخالية والأمم السالفة. والثاني: بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على طاعته، والوعيد بالعقاب على معصيته. {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي لما قبله من كتاب ورسول، وإنما قيل لما قبله {بَيْنَ يَدَيْهِ} لأنه ظاهر له كظهور ما بين يديه. وفي قوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قولان: أحدهما: معناه مخبراً بما بين يديه إخبار صدق دل على إعجازه. والثاني: معناه أنه يخبر بصدق الأنبياء فيما أتوا به على خلاف من يؤمن ببعض ويكفر ببعض...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{بالحق} يحتمل معنيين: إحداهما أن يكون المعنى ضمن الحقائق من خيره وأمره ونهيه ومواعظه، فالباء على حدها في قوله: جاءني كتاب بخبر كذا وكذا أي ذلك الخبر مقتص فيه، والثاني: أن يكون المعنى أنه نزل الكتاب باستحقاق أن ينزل لما فيه من المصلحة الشاملة وليس ذلك على أنه واجب على الله تعالى أن يفعله، فالباء في هذا المعنى على حدها في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} وقال محمد بن جعفر بن الزبير: معنى قوله: {بالحق} أي مما أختلف فيه أهل الكتاب واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون، وهذا داخل في المعنى الأول، و {مصدقاً} حال مؤكدة وهي رتبة غير منتقلة لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه من كتب الله. وما بين يديه هي التوراة والإنجيل وسائر كتب الله التي تلقيت من شرعنا كالزبور والصحف، وما بين اليد في هذه الحوادث هو المتقدم من الزمن.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

قوله تعالى {نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يعني: نزل عليك القرآن يا محمد {بِالْحَقِّ} أي: لا شك فيه ولا ريب، بل هو منزل من عند الله [عز وجل] أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيدًا.

وقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله الأنبياء، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها؛ لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت، من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن العظيم عليه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كانت مادة "كتب "دائرة على معنى الجمع عبر بالتنزيل الذي معناه التفريق لتشمل هذه الجملة على وجازتها من أمره على إجمال وتفصيل فقال: وقال الحرالي: و لما كانت إحاطة الكتاب أي في البقرة ابتداء وأعقبها أي في أول هذه السورة إحاطة الإلهية جاء هذا الخطاب رداً عليه، فتنزل من الإحاطة الإلهية إلى الإحاطة الكتابية بالتنزيل الذي هو تدريج من رتبة إلى رتبة دونها؛ انتهى فقال: {نزّل} أي شيئاً فشيئاً في هذا العصر {عليك} أي خاصة بما اقتضاه تقديم الجار من الحصر، وكأن موجب ذلك ادعاء بعضهم أنه يوحي إليه وأنه يقدر على الإتيان بمثل هذا الوحي {الكتاب} أي القرآن الجامع للهدى منجماً بحسب الوقائع، لم يغفل عن واحدة منها ولا قدم جوابها ولا أخره عن محل الحاجة، لأنه قيوم لا يشغله شأن عن شأن... تنزيلاً ملتبساً {بالحق} أي الأمر الثابت، فهو ثابت في نفسه، وكل ما ينشأ عنه من قول وفعل كذلك. قال الحرالي: وكما أن هذا الكتاب هو الكتاب الجامع الأول المحيط بكل كتاب، كذلك هذا الحق المنزل به هذا الكتاب هو الحق الجامع المحيط الذي كل حق منه، وهو الحق الذي أقام به حكمته فيما رفع ووضع انتهى. حال كونه {مصدقاً لما بين يديه} أي من الكتب السماوية التي أتت بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عن الحضرة الإلهية. قال الحرالي: لما كان هذا الكتاب أولاً وجامعاً ومحيطاً كان كل كتاب بين يديه ولم يكن من ورائه كتاب انتهى...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{نزل عليك الكتاب بالحق} أي أوحى إليك هذا القرآن المكتوب بالتدريج متصفا بالحق متلبسا به. وإنما عبر عن الوحي بالتنزيل وبالإنزال كما في آيات أخرى للإشعار بعلو مرتبة الموحي على الموحى إليه. ويصح التعبير بالإنزال عن كل عطاء منه تعالى كما قال: {وأنزلنا الحديد} [الحديد: 25]. وأما التدريج فقد استفيد من صيغة التنزيل، وكذلك كان: فقد نزل القرآن نجوما متفرقة بحسب الأحوال والوقائع. ومعنى تنزيله بالحق أن فيه ما يحقق أنه من عند الله تعالى، فلا يحتاج إلى دليل من غيره على حقيقته، أو معناه: أن كل ما جاء به من العقائد والأخبار والأحكام والحكم حق. وقد يوصف الحكم بكونه حقا في نفسه إذا كانت المصلحة والفائدة تتحقق به. وفي أشهر التفاسير أن المراد بالحق: العدل أو الصدق في الأخبار أو الحجج الدالة على كونه من عند الله وما قلناه أعم وأوضح. {مصدقا لما بين يديه} أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء أي كونها وحيا من الله تعالى. وذلك أنه أثبت الوحي وذكر أنه تعالى أرسل رسلا أوحى إليهم. فهذا تصديق إجمالي لأصل الوحي لا يتضمن تصديق ما عند الأمم التي تنتمي إلى أولئك الأنبياء من الكتب بأعيانها ومسائلها. ومثاله تصديقنا لنبينا صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به فهو لا يستلزم تصديق كل ما في كتب الحديث المروية عنه بل ما ثبت منها عندنا فقط...

{وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس} التوراة كلمة عبرانية معناها المراد الشريعة أو الناموس، وهي تطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها وهي: سفر التكوين وفيه الكلام عن بدء الخليقة وأخبار بعض الأنبياء. وسفر الخروج وسفر اللاويين أو الأخبار وسفر العدد و سفر تثنية الاشتراع ويقال التثنية فقط. ويطلق النصارى لفظ التوراة على جميع الكتب التي يسمونها العهد العتيق وهي كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بني إسرائيل وملوكهم قبل المسيح. ومنها ما لا يعرفون كاتبه. وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا وهو المعبر عنه بالإنجيل وسيأتي تفسيره. أما التوراة في عرف القرآن؛ فهي ما أنزله الله تعالى من الوحي على موسى عليه الصلاة والسلام ليبلغه قومه لعلهم يهتدون به. وقد بين تعالى أن قومه لم يحفظوه كله إذ قال في سورة المائدة: {ونسوا حظا مما ذكروا به} [المائدة: 13] كما أخبر عنهم في آيات أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه وذلك فيما حفظوه واعتقدوه. أما لفظ "الإنجيل "فهو يوناني الأصل ومعناه البشارة قيل والتعليم الجديد. وهو يطلق عند النصارى على أربعة كتب تعرف بالأناجيل الأربعة وعلى ما يسمونه العهد الجديد، وهو هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل (أي الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا، أي على المجموع، فلا يطلق على شيء مما عدا الكتب الأربعة بالانفراد. والأناجيل الأربعة عبارة عن كتب وجيزة في سيرة المسيح عليه السلام وشيء من تاريخه وتعليمه. ولهذا سميت أناجيل. وليس لهذه الكتب سند متصل عند أهلها وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة...

وقال الأستاذ الإمام في تفسير هذه الجملة: المتبادر من كلمة أنزل أن التوراة نزلت على موسى مرة واحدة، وإن كانت مرتبة في الأسفار المنسوبة إليه. فإنها مع ترتيبها مكررة والقرآن لا يعرف هذه الأسفار ولم ينص عليها. وكذلك الإنجيل نزل مرة واحدة ليس هو هذه الكتب التي يسمونها أناجيل، لأنه لو أرادها لما أفرد الإنجيل دائما. مع أنها كانت متعددة عند النصارى حينئذ.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

عقب هذا الإيضاح الحاسم في مفرق الطريق، بإعلان الوحدانية المطلقة لذات الله وصفاته، يجيء الحديث عن وحدانية الجهة التي تتنزل منها الأديان والكتب والرسالات. أي التي يتنزل منها المنهج الذي يصرف حياة البشر في جميع الأجيال: (نزل عليك الكتاب بالحق -مصدقا لما بين يديه- وأنزل التوراة والإنجيل من قبل -هدى للناس- وأنزل الفرقان. إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد. والله عزيز ذو انتقام). وتتضمن هذه الآية في شطرها الأول جملة حقائق أساسية في التصور الاعتقادي، وفي الرد كذلك على أهل الكتاب وغيرهم من المنكرين لرسالة محمد [ص] وصحة ما جاء به من عند الله. فهي تقرر وحدة الجهة التي تتنزل منها الكتب على الرسل. فالله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، هو الذي أنزل هذا القرآن -عليك- كما أنه أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل. وإذن فلا اختلاط ولا امتزاج بين الألوهية والعبودية. إنما هناك إله واحد ينزل الكتب على المختارين من عباده. وهناك عبيد يتلقون. وهم عبيد لله ولو كانوا أنبياء مرسلين...

وهي تقرر وحدة الدين ووحدة الحق الذي تتضمنه الكتب المنزلة من عند الله. فهذا الكتاب نزله -عليك- (بالحق).. (مصدقا لما بين يديه).. من التوراة والإنجيل...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{نزل عليك الكتاب} خبر عن اسم الجلالة. والخبر هنا مستعمل في الامتنان، أو هو تعريض ونكايةَ بأهل الكتاب: الذين أنكروا ذلك. وجيء بالمسند فعلاً لإفادة تقوية الخبر، أو للدلالة مع ذلك على الاختصاص: أي الله لا غيره نزّل عليك الكتاب إبطالاً لقول المشركين: إنّ القرآن من كلام الشيطان، أو من طرائق الكهانة، أو يُعلِّمه بَشَرٌ. والتضعيف في {نَزّل} للتعدية فهو يساوي الهمز في أنزل، وإنّما التضعيف يؤذن بقوة الفعل في كيفيته أو كمّيته...فيكون قوله: {نزل عليك الكتاب} أهمّ من قوله: {وأنزل التوراة} للدلالة على عظم شأن نزول القرآن.

والكتاب: القرآن. والباء في قوله: {بالحق} للملابسة، ومعنى ملابسته للحق اشتماله عليه في جميع ما يشتمل عليه من المعاني قال تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نَزل} [الإسراء: 105]...

{مصدقاً لما بين يديه} أنّه مصدق للكتب السابقة له، وجعل السابق بين يديه: لأنّه يجيء قبله، فكأنّه يمشي أمامه.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه} "الكتاب "هو القرآن الكريم، و إن أكثر السور التي تبتدئ بتلك الحروف تقترن فيها الحروف بالتنويه بذكر القرآن، و إعلاء شأنه، مما جعل المفسرين يعتبرون تلك الحروف أسماء للسور، سماها القرآن بها، و فواصل محكمة بين سورة و أخرى من سور القرآن الكريم. و قد عبر – سبحانه و تعالى – عن نزول القرآن الكريم ب {نزل} للإشارة إلى أن النزول كان تدريجيا، و لم يكن دفعة واحدة، إذ إن التنزيل يدل على التدرج في النزول، وكذلك كان القرآن الكريم، فقد نزل منجما ينزل في الوقائع، أو الأسئلة ليكون السبب الذي اقترن بنزوله معينا على فهمه و إدراك بعض مغازيه.

و قد ذكر تنزيل القرآن مقترنا بأمرين متصلا بهما:

أولهما: أنه حق في ذاته، و مبين للحق مشتمل عليه، و داع إليه، فقال الله تعالى: {بالحق} أي مصاحبا له مقترنا بما ملازما له، فهو حق لأنه نزل من عند رب العالمين، و اشتمل على الحق، فكل ما فيه من قصص و أخبار و شرائع و أحكام و عقائد حق لا شك فيه، و هو يدعو إلى الحق و العدل، فهو الحق الملازم للحق، الناصر للحق.

و ثاني الأمرين: أنه مصدقا لما بين يديه، أي الشرائع الإلهية التي سبقته، و لذا قال سبحانه: {مصدقا لما بين يديه} فهو في لبه و معناه مبين لكل الشرائع مصدقا لصدقها، و هذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في لبها و معناها و أصولها، و لذا قال سبحانه: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تفرقوا فيه... 13} (الشورى). فالإسلام هو لب الأديان و غايتها، و لذا قال سبحانه: {إن الدين عند الله الإسلام... 19} (آل عمران).

{و أنزل التوراة والإنجيل} هذا تصريح ببعض ما تضمنته الجملة السامية السابقة، إذ قد تضمنت الجملة السابقة أن القرآن يصدق الثابت النازل من عند الله في الشرائع السابقة، و هي تتضمن أنها كانت هداية للناس، و هذه الجملة تصرح بأن التوراة أنزلت هي و الإنجيل من عند الله هداية للذين أنزلت لهم. و في هذه الجملة إشارة على معنى آخر، و هو أن لكل أمة كتابا و هداية خاصة، و إن كانت في معناها مشتقة من الهدى الإلهي العام، حتى إذا كانت دعوة محمد صلى الله عليه و سلم كانت هي الهدى العام الخالد إلى يوم القيامة.

{التوراة} اسم للكتاب الذي اشتمل على شريعة موسى عليه السلام، و نزل عليه من رب العالمين، و ليست هي التوراة التي يتلوها اليهود اليوم، لأن هذه التي تسمى بهذا الاسم الآن تشمل على ما نزل في عهد موسى، و تشمل ما جاء بعد ذلك في عهد النبيين الذين بعثوا في بني إسرائيل كداود و سليمان و غيرهما، و فوق ذلك فإن القرآن الكريم أشار في عدة مواضع إلى أن أهل الكتاب نسوا حظا مما ذكروا به، و حرفوا الكلم عن مواضعه، و غيروا و بدلوا، ثم كانت التخريبات التي حلت بأورشليم في عهد بختنصر أولا، ثم في عهد الرومان ثانيا سببا في أنهم نسوا حظا مما ذكروا به، فليست التوراة المذكورة في القرآن هي التوراة الشائعة الآن.

{و الإنجيل} كلمة يونانية 106 معناها البشارة، و الإنجيل هو الكتاب الذي نزل على عيسى، و ليس هو هذا الأناجيل التي يقرأها المسيحيون اليوم، فإن هذه مؤلفات ألفت بعد السيد المسيح عيسى عليه السلام، نسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه، و لقد كان للمسيح عليه السلام إنجيل غير هذه الأناجيل، و هو الذي ذكره القرآن الكريم على أنه هداية للناس.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني. إذن لابد أن تنزل القيم. لذلك قال سبحانه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} و {نَزَّلَ} تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لأن النزول معناه: شيء من أعلى ينزل، وهو يقول لك: لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛ لأنها ليست من مساو لك، إنها من خالق الكون والبشر، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو أدنى منك. لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه؛ لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة، فقال: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}. وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193]. ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء: 105]. ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه "نزل"، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء: 105]. وبذلك تتساوى "أنزل "مع" نزل". وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل: أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وعشرين عاما وينزل القرآن حسب الحوادث، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]...

والحق هنا يحدد زمنا. ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاما هو الذي أنزله الله في ليلة القدر. إذن فللقرآن نزولان اثنان: الأول: إنزال من "أنزل". الآخر: تنزيل من" نَزّل". إذن فالمقصود من قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر...

والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجما على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعا أو إيضاحا لأمر. لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل، لقد نزلت مرة واحدة؛ لا حسب الأحداث والمناسبات، لقد جاءت مرة واحدة، كما نزل القرآن أولا من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران: 3] وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن: "نَزَّل" وقال عن التوراة والإنجيل: "أنزل". لقد جاءت همزة التعدية وجمع سبحانه بين التوراة والإنجيل في الإنزال، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما الله مرة واحدة، أما القرآن الكريم فقد نَزَّله الله في ثلاث وعشرين سنة منجما ومناسباً للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين، ومتضمنا البلاغ الشامل من يوم الخلق إلى يوم البعث. ونَزَّل الله القرآن منجما مناسباً للأحداث، ليثبت فؤاد رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرض لأحداث شتى، كلما يأتي حدث يريد تثبيتا ينزل نجم من القرآن. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]. وكان النجم من القرآن ينزل، ويحفظه المؤمنون، ويعملون بهديه، ثم ينزل نجم آخر، والله سبحانه يقول: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33]. فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح لهم المجال لأن يسألوا، وأن يستوضحوا الأمور التي تغمض عليهم. وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به. ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية مُمتلئا بألوان شتى من الداء، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه، وذلك أسهل وأوثق...