إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ} (3)

{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب } أي القرآنَ ، عبّر عنه باسم الجنس إيذاناً بكمال تفوُّقه على بقية الأفراد في حيازة كمالاتِ الجنس كأنه هو الحقيقُ بأن يُطلَقَ عليه اسمُ الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريحُ باسمي التوراةِ والإنجيل ، وصيغة التفعيلِ للدَلالة على التفخيم ، وتقديمُ الظرف على المفعول لما مر من الاعتناءِ بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر ، والجملة إما مستأنفةٌ أو خبرٌ آخرُ عن الاسمِ الجليل أو هي الخبر ، وقولُه تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراض أو حال ، وقوله عز وجل : { الحي القيوم } [ آل عمران ، الآية : 2 ] صفةٌ أو بدلٌ كما مر ، وقرئ نَزَلَ عليك الكتابُ بالتخفيف ورفعِ الكتاب ، فالظاهرُ حينئذ أن تكونَ مستأنفةٌ وقيل : يجوزُ كونُها خبراً بحذف العائد أي نزَل الكتابُ من عنده { بالحق } حال من الفاعل أو المفعول أي نزّله مُحِقاً في تنزيله على ما هو عليه أو ملتبساً بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره التي من جملتها خبرُ التوحيد وما يليه ، وفي وعده ووعيدِه أو بما يحقِّق أنه من عند الله تعالى من الحجج البينة { مُصَدّقاً } حال من الكتاب بالاتفاق على تقدير كون قولِه تعالى : { بالحق } [ آل عمران ، الآية : 3 ] حالاً من فاعل نزّل ، وأما على تقدير حاليته من الكتاب فهو عند من يجوِّز تعددَ الحال بلا عطف ولا بدلية حالٌ منه بعد حال ، وأما عند من يمنعه فقد قيل : إنه حالٌ من محل الحال الأولى على البدلية وقيل : من المستكنّ في الجار والمجرور ، لأنه حينئذ يتحمّل ضميراً لقيامه مقامَ عاملِه المتحمّل له فيكون حالاً متداخلةً ، وعلى كل حال فهي حالٌ مؤكدة ، وفائدةُ تقييدِ التنزيل بها حثُّ أهلِ الكتابين على الإيمان بالمُنَزّل وتنبيهُهم على وجوبه فإن الإيمانَ بالمصدَّق موجبٌ للإيمان بما يصدِّقه حتماً { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } مفعول لمصدقاً واللامُ دِعامةٌ لتقوية العمل نحوُ { فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } [ هود ، الآية 107 . وسورة البروج ، الآية 16 ] أي مصدقاً لما قبله من الكتب السالفةِ وفيه إيماءٌ إلى حضورها وكمال ظهورِ أمرِها بين الناس ، وتصديقُه إياها في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وتنزيهُ الله عز وجل عما لا يليق بشأنه الجليل والأمرُ بالعدل والإحسان وكذا في أنباء الأنبياءِ والأممِ الخالية وكذا في نزوله على النعت المذكور فيها وكذا في الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأممِ والأعصار ظاهرٌ لا ريب فيه أي خبر تصديقه لا ريب فيه وأما في الشرائع المختلفة باختلافهما فمن حيث أن أحكامَ كل واحد منها واردةٌ حسبما تقتضيه الحِكمةُ التشريعية بالنسبة إلى خصوصيات الأمم المكلفةِ بها مشتملةٌ على المصالح اللائقةِ بشأنهم .

{ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل } تعيينٌ لما بين يديه وتبيينٌ لرفعة محلِّه تأكيداً لما قبله وتمهيداً لما بعده إذ بذلك يترقى شأنُ ما يصدّقه رفعةً ونباهةً ويزداد في القلوب قبولاً ومهابةً ويتفاحش حالُ من كفرَ بهما في الشناعة واستتباعِ ما سيذكر من العذاب الشديد والانتقام ، أي أنزلهما جملةً على موسى وعيسى عليهما السلام وإنما لم يُذكرا لأن الكلام في الكتابين لا فيمن أنزِلا عليه وهما اسمان أعجميانِ الأولُ عِبري والثاني سرياني ويعضُده القراءةُ بفتح همزةِ الإنجيل فإن إفعيل ليس من أبنية العربِ ، والتصدي لاشتقاقهما من الورى والنجْل تعسفٌ .