تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ} (3)

3- { نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل . . . }

نزل عليك الكتاب يعني القرآن وللقرآن أسماء كثيرة وردت متفرقات في ثنايا الكتاب العزيز فهو القرآن والكتاب والفرقان والذكر . . . وغير ذلك من الأسماء العديدة التي أوردها السيوطي في كتابه ( الإتقان ) وقد عبر عن القرآن بالكتاب للإيذان بأنه هو الكتاب المتميز الذي ينصرف إليه هذا الاسم عند الإطلاق والألف واللام فيه للعهد أي الكتاب المعهود او الإشارة إلى أنه مشتمل على ما في غيره من الكتب السماوية من المقاصد المشتركة بين الأديان فكأنه جنس الكتب السماوية والألف فيه على هذا للجنس .

{ بالحق } أي بالصدق الذي لا شبهة فيه .

فقد أنزل الله القرآن متلبسا بالحق في جميع صوره من توحيد الله وتنزيهه عن الصاحبة والولد وإخباره عن أحوال الأمم السابقة وشهادته بنبوة محمد صلى الله عليه سلم وبيان ما جاء به من العبادات والمعاملات والأخلاق وأحوال الآخرة فكل هذه الصور من الحق نزل بها القرآن .

{ مصدقا لما بين يديه } .

الضمير في يديه يعود على الكتاب ، والمعنى أن الكتاب العزيز مصدقا لما قبله من الكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله ومحقق لها فيها نزلت به فإن الله سبحانه لم يبعث رسولا قط إلا بالدعوة إلى توحيده والإيمان به وتنزيه عما لا يليق به سبحانه مثل صحف إبراهيم وزبور داود وتوراة موسى .

قال أبو مسلم المراد منه انه تعالى لم يبعث نبيا قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به وتنزيهه عما لا يليق به و الأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك( 117 ) .

{ التوراة والإنجيل } أي أنزل التوراة والإنجيل

التوراة والإنجيل

يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي في تفسير هذه الآيات ما يأتي :

يفهم الناس بوجه عام أن المراد بالتوراة هي الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم ( 119 ) وأن المقصود بالإنجيل أناجيل العهد الجديد الشهيرة( 120 ) ومن هنا ظهرت هذه المشكلة .

أي هذه الكتب يا ترى هي كلام الله حقا ؟ وهل يصدق القرآن فعلا كل ما ورد فيها من أقوال الحقيقة ان التوراة ليست هي الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم بل هي منشورة في بطنها وأن الإنجيل ليس هو الأناجيل الأربعة بل هو موجود بين سطورها .

فالمراد بالتوراة أصلا تلك الأحكام التي نزلت على موسى عليه السلام منذ بعثته وإلى وفاته أي في مدة ما تقارب اثنين وأربعين عاما كانت منها تلك الوصايا العشر التي دونها الله على ألواح وأعطاها له . أما بقة الأحكام فقد أمر موسى عليه السلام بكتابة اثنتي عشرة نسخة منها وأعطاها لأسباط بني إسرائيل الاثني عشر وأعطى نسخة من هذه النسخ إلى بني لاوي أحد أسباط بني إسرائيل كي يحفظوها وكان هذا الكتاب يسمى بالتوراة وقد ظل سليما محفوظا ككتاب مستقل حتى أول تدمير لبيت المقدس وكانت نسخة بني لاوي والألواح الحجرية توضع في تابوت العهد ويعرفها بنو إسرائيل باسم ( التوراة ) غير أن غفلتهم ونسيانهم وصل إلى حد أنه حين حدث ترميم الهيكل السليماني في عهد ( يوسياه ) ملك يهوذا عثر كبير الكهان على التوراة موضوعة في مكان ما في ( خلقيا ) وأعطاها إلى كاتب الملك كأعجوبة أثرية فأخذها الكاتب وقدمها للملك كاكتشاف مدهش عجيب ( أنظر الملوك الثاني إصحاح 22 من 1308 ) .

و حين فتح ( بختنصر ) أورشليم وأحرق الهيكل والمدينة بأكملها وسواها بالتراب فقد بنو إسرائيل نسخ التوراة الأصلية التي كانت لديهم أعداد جد قليلة منها وكانوا قد أسدلوا عليها ستائر النسيان .

ثم عادت بقية بنو إسرائيل من الأسر البابلي في عهد الكاهن عزرا ( عزير ) إلى أورشليم وبنى بيت المقدس من جديد دوّن عزرا كل تاريخ بني إسرائيل بعون من بعض أكابر القوم وهو ما يضم الآن الأسفار السبعة عشر الأولى من العهد القديم .

و الأسفار الأربعة من هذا التاريخ التي تحوي سيرة موسى عليه السلام وهي الخروج واللاويين والعدد والتثنية أدرجت فيها آيات التوراة التي كانت في يد عزرا ومعاونية حسب موقعها وفق ترتيب نزولها .

فالتوراة الآن إذن هي تلك الأجزاء المتفرقة التي تتناثر فيها سيرة موسى عليه السلام بين صفحات العهد القديم ونستطيع أن نتبينها من بين هذا السرد التاريخي بعلامة واحدة هي أننا إذا وجدنا مصنف سيرة موسى يقول : قال الله لموسى كذا . . . أو قال موسى : الرب إلهكم يقول كذا . . فلنعلم ان جزءا من التوراة قد بدأ هنا ثم إذا استؤنف سرد السيرة فنعلم ان هذا الجزء قد انتهى وإذا ما أسهب مصنف التوراة في شرح وتفسير شيء ما في موضع وسط صفحاتها تعذر على المرء العادي أن يميز ما إذا كان هذا الجزء من التوراة أم من الشرح والتفسير ومع ذلك فمن لهم بصيرة في تدبر الكتب السماوية في مقدورهم أن يعرفوا إلى حد ما التفاسير والشروح التي أضيفت وألحقت بهذه الأجزاء على نحو صحيح .

و القرآن يسمى هذه الأجزاء المتناثرة التوراة ويصدقها والحقيقة أننا لو جمعنا هذه الجزاء وقارناها بالقرآن فلن نجد قيد شعرة من الاختلاف في الأحكام الجزئية في بعض المواضع والمتدبر لكليهما اليوم يستطيع أن يحس إحساسا واضحا بأن كلا الرافدين صادر من منبع واحد .

كذلك فالإنجيل في أصله هو تلك الخطب والأقوال التي قالها المسيح عليه السلام حتى آخر عامين أو ثلاثة من حياته بوصفه نبيا من عند الله أما هل كتبت هذه الكلمات الطيبة في حياته أم لا فليس عندنا أي مصدر نستسقي منه المعلومات حول ذلك وقد يجوز ان يكون بعض الناس قد دونوها ويجوز أن بعض المؤمنين به سمعوها وحفظوها شفاهة على أي حال حين كتبت رسائل مختلفة عن سيرته الطاهرة بعد ردح من الزمن أدرجت فيها إلى جانب البيان التاريخي تلك الأقوال والخطب التي وصلت إلى مصنفي هذه الرسائل عن طريق الروايات الشفهية أو المذكرات المكتوبة وكتب متى ومرقص ولوقا و يوحنا التي تسمى اليوم ( أناجيل ) ليست هي الإنجيل الأصلي وإنما الإنجيل الحق أقوال المسيح التي أدرجت بين سطورها وليس لدينا وسيلة للتعرف عليها أو التفريق بينها وبين كلام كتاب سيرة المسيح عليه السلام سوى أنه حين يقول المؤلف قال المسيح كذا أو علم المسيح الناس كذا . . فهذه هي أجزاء الإنجيل الأصلي والقرآن يسمي هذه الأجزاء بالإنجيل ويصدقها ولو جمع امرؤ اليوم هذه الأجزاء المنثورة بين صفحات العهد الجديد وقارنها بالقرآن لما وجد بين كليهما سوى فرق طفيف وحتى هذا الفرق البسيط الذي يدركه من يقوم بهذه المقارنة يمكن حله وإزالته بسهولة ويسر بعد التفكير فيه بعقل بعيد عن التعصب( 121 ) .