الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ} (3)

قوله تعالى : " نزل عليك الكتاب " يعني القرآن . " بالحق " أي بالصدق وقيل : بالحجة الغالبة . والقرآن نزل نجوما : شيئا بعد شيء ؛ فلذلك قال " نَزّلَ " والتنزيل مرة بعد مرة . والتوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة فلذلك قال " أنزل " والباء في قوله " بالحق " في موضع الحال من الكتاب والباء متعلقة بمحذوف التقدير آتيا بالحق ولا تتعلق ب " نَزَّلَ " لأنه قد تعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر ، ولا يتعدى إلى ثالث . و " مصدقا " حال مؤكدة غير منتقلة ؛ لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق ، أي غير موافق ، هذا قول الجمهور . وقدر فيه بعضهم الانتقال ، على معنى أنه مصدق لنفسه ومصدق لغيره .

قوله تعالى : " لما بين يديه " يعني من الكتب المنزلة ، " وأنزل التوراة والإنجيل " والتوراة معناها الضياء والنور مشتقة من وَرَى الزَّنْد ووَرِيَ لغتان إذا خرجت ناره . وأصلها تَوْرَيَة على وزن تفعلة ، التاء زائدة ، وتحركت الياء وقبلها فتحة فقلبت ألفا . ويجوز أن تكون تَفْعِلة فتنقل الراء من الكسر إلى الفتح كما قالوا في جارية وفي ناصية ناصاة{[2822]} كلاهما عن الفراء . وقال الخليل : أصلها فَوْعَلة فالأصل وَوْرَيَة قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تَوْلَج{[2823]} ، والأصل وَوْلج فوعل من وَلَجَت وقلبت الياء ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها . وبناء فَوْعَلة أكثر من تَفْعَلَة . وقيل : التوراة مأخوذة من التورية ، وهي التعريض بالشيء والكتمان لغيره ، فكأن أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح ، هذا قول المؤرج . والجمهور على القول الأول لقوله تعالى : " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين " {[2824]} [ الأنبياء : 48 ] يعني التوراة . والإنجيل إفعيل من النَّجْل وهو الأصل ، ويجمع على أناجيل وتوراة على تَوَار ، فالإنجيل أصل لعلوم وحكم . ويقال : لعن الله ناجليه ، يعني والديه ، إذ كانا أصله . وقيل : هو من نجلت الشيء إذا استخرجته ، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم ، ومنه سمي الولد والنسل نجلا لخروجه ، كما قال :

إلى معشرٍ لم يُورِثِ اللؤم جَدُّهم *** أَصَاغرَهم وكل فَحْل لهم نَجْل

والنجل الماء الذي يخرج من النَّزِّ . واستنجلت الأرض ، وبها نجال إذا خرج منها الماء ، فسمي الإنجيل به ؛ لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا . وقيل : هو من النَّجَل في العين ( بالتحريك ) وهو سعتها ؛ وطعنة نجلاء ، أي واسعة ، قال :

ربما ضربةٍ بسيف صقيل *** بين بُصْرَى وطَعْنَةٍ نجلاء

فسمي الإنجيل بذلك ؛ لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم ونورا وضياء . وقيل : التناجل التنازع ، وسمي إنجيلا لتنازع الناس فيه . وحكى شمر عن بعضهم : الإنجيل كل كتاب مكتوب وافر السطور . وقيل : نَجَل عمل وصنع ، قال :

وأنجلُ في ذاك الصنيع كما نَجَل

أي أعمل وأصنع . وقيل : التوراة والإنجيل من اللغة السريانية . وقيل : الإنجيل بالسريانية إنكليون{[2825]} ، حكاه الثعلبي . قال الجوهري : الإنجيل كتاب عيسى عليه السلام يذكر ويؤنث ، فمن أنث أراد الصحيفة ، ومن ذكر أراد الكتاب . قال غيره : وقد يسمى القرآن إنجيلا أيضا ، كما روي في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال : ( يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتي ) . فقال الله تعالى له : ( تلك أمة أحمد ) صلى الله عليه وسلم ، وإنما أراد بالأناجيل القرآن . وقرأ الحسن : " والأنجيل " بفتح الهمزة ، والباقون بالكسر مثل الإكليل ، لغتان . ويحتمل أن سمع{[2826]} أن يكون مما عربته العرب من الأسماء الأعجمية ، ولا مثال له في كلامها .


[2822]:- هي لهجة طائية، يقولون في مثل جارية جاراة، وناصية ناصاة وكاسية كاساة.
[2823]:- التولج: كناس الظبي أو الوحش الذي يلج فيه.
[2824]:- راجع جـ11 ص 295.
[2825]:- في بعض كتب اللغة: إنجيل لفظ يوناني.
[2826]:- الزيادة من نسخة: ب.