قوله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } . الآية نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه ، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ، يعرف الحزن في وجهه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما غير لونك ؟ فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع ، غير أني إن لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى لقاك ، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين ، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبداً ، فنزلت هذه الآية . وقال قتادة : قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : كيف يكون الحال في الجنة وأنت في الدرجات العلا ؟ ونحن أسفل منك ؟ وكيف نراك ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية . ( ومن يطع الله ) في أداء الفرائض ، { والرسول } في السنن { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم ، لأنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء .
قوله تعالى : { والصديقين } . وهم أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، والصديق المبالغ في الصدق .
قوله تعالى : { والشهداء } قيل : هم الذين استشهدوا في يوم أحد ، وقيل : الذين استشهدوا في سبيل الله ، وقال عكرمة : ( النبيون ) هاهنا : محمد صلى الله عليه وسلم ، والصديق : أبو بكر ، ( والشهداء ) عمر ، وعثمان ، وعلي ، رضي الله عنهم
قوله تعالى : { والصالحين } . سائر الصحابة رضي الله عنهم .
قوله تعالى : { وحسن أولئك رفيقاً } يعني : رفقاء في الجنة ، والعرب تضع الواحد موضع الجمع ، كقوله تعالى : { ثم نخرجكم طفلاً } [ غافر :67 ] أي : أطفالاً { ويولون الدبر } أي : الأدبار .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي ، أنا أبو العباس السراج ، أنا قتيبة بن سعيد ، أنا حمد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس أن رجلاً قال : يا رسول الله الرجل يحب قوماً ولما يلحق بهم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع من أحب } .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، وأبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي قالا : " أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا أبو يحيى زكريا بن يحيى المروزي ، أنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال : وما أعددت لها ؟ قال : لا شيء ؟ إلا أني أحب الله ورسوله . قال : فأنت مع من أحببت " .
وفي نهاية هذه الجولة ، ونهاية هذا الدرس ، يعود السياق إلى الترغيب ؛ واستجاشة القلوب ؛ والتلويح للأرواح بالمتاع الحبيب . . متاع الصحبة في الآخرة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
( ومن يطع الله والرسول ، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وحسن أولئك رفيقا ! ذلك الفضل من الله ، وكفى بالله عليمًا ) . .
إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب ، فيه ذرة من خير ؛ وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة ، في جوار الله الكريم . . وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي . . إنما هي من فضل الله . فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها . . إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم .
ويحسن هنا أن نعيش لحظات مع صحابة رسول الله [ ص ] وهم يتشوقون إلى صحبته في الآخرة ؛ وفيهم من يبلغ به الوجد ألا يمسك نفسه عند تصور فراقه . . وهو [ ص ] بين ظهرانيهم . فتنزل هذه الآية : فتندي هذا الوجد ؛ وتبل هذه اللهفة . . الوجد النبيل . واللهفة الشفيفة :
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب السقمي ، عن جعفر بن أبى المغيرة ، عن سعيد بن جبير . قال : جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله [ ص ] وهو محزون . فقال له النبى [ ص ] : " يا فلان . ما لي أراك محزونا ؟ " فقال : يا نبي الله . شيء فكرت فيه . فقال : " ما هو ؟ " قال : نحن نغدو عليك ونروح . ننظر إلى وجهك ، ونجالسك . وغدا ترفع مع النبيين ، فلا نصل إليك . . فلم يرد عليه النبي [ ص ] شيئًا . فأتاه جبريل بهذه الآية : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) . . الآية ، فبعث النبي [ ص ] فبشره .
وقد رواه أبو بكر بن مردويه مرفوعا - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " جاء رجل إلى النبي [ ص ] فقال : يا رسول الله . إنك أحب إلي من نفسي ، وأحب إلى من أهلي ، وأحب إلي من ولدي . وإني لأكون في البيت ، فأذكرك ، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك . وإذا ذكرت موتيوموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك . فلم يرد عليه النبي [ ص ] حتى نزلت : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) . .
وفي صحيح مسلم من حديث عقل بن زياد ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن كثير ، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن ، عن ربيعة بن كعب الأسلمي ، أنه قال : كنت أبيت عند رسول الله [ ص ] فأتيته بوضوئه وحاجته . فقال لي : " سل " . فقلت يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة . فقال : " أو غير ذلك " . قلت : هو ذاك . قال : " فأعني على نفسك بكثرة السجود " .
وفي صحيح البخاري من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله [ ص ] سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ، فقال : " المرء مع من أحب " . . قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث . .
لقد كان الأمر يشغل قلوبهم وأرواحهم . . أمر الصحبة في الآخرة . . وقد ذاقوا طعم الصحبة في الدنيا ! وإنه لأمر يشغل كل قلب ذاق محبة هذا الرسول الكريم . . وفي الحديث الأخير أمل وطمأنينة ونور . . .
لما ذكر الله الأمر الذي لو فعلوه لأنعم عليهم ، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله ، وهذه الآية تفسير قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم }{[4140]} وقالت طائفة إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذان ، يا رسول الله إذا مت ومتنا كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك ، وذكر حزنه على ذلك ، فنزلت هذه الآية ، وحكى مكي عن عبد الله هذا ، أنه لما مات النبي عليه السلام ، قال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئاً بعده ، فعمي ، وذكر أن جماعة من الأنصار قالت ذلك أو نحوه ، حكاه الطبري عن ابن جبير وقتادة والسدي .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى - أنهم معهم - أنهم في دار واحدة ، ومتنعم واحد ، وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله ، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول ، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم ، وعلى قدر فضل الله على من شاء ، و «الصدّيق » فعيل من الصدق ، وقيل من الصدقة ، وروي عن النبي عليه السلام : ( الصديقون المتصدقون ){[4141]} ، والشهداء المقتولون في سبيل الله ، هم المخصوصون بفضل الميتة{[4142]} ، وهم الذي فرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ، لأنهم أكرم من أن يشفع لهم ، وسمعوا بذلك لأن الله شهد لهم بالجنة ، وقيل لأنهم شهدوا لله بالحق في موتهم ابتغاء مرضاته ، ولكن لفظ ، { الشهداء } في هذه الآية يعم أنواع الشهداء ، و { رفيقاً } موحد في معنى الجمع ، كما قال : { ثم يخرجكم طفلاً }{[4143]} ونصبه على التمييز ، وقيل على الحال ، والأول أصوب ، وقرأ أبو السمال ، «وحسْن » بسكون السين ، وذلك مثل شجر بينهم .