غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّـٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَـٰٓئِكَ رَفِيقٗا} (69)

58

ثم أكد أمر الطاعة بقوله : { ومن يطع الله والرسول } ولا شك أن الآية عامة في جميع المكلفين إلاّ أن المفسرين ذكروا في سبب نزولها وجوهاً . قال الكلبي : " نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن . فقال له : يا ثوبان ما غيّر لونك ؟ فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وأني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل الجنة فذاك حريّ أن لا أراك أبداً " .

وقال مقاتل : " نزلت في رجل من الأنصار قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك فيما ينفعنا شيء حتى نرجع إليك ، ثم ذكرت درجتك في الجنة فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة فأنزل الله هذه الآية . فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أتى الأنصاري ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئاً بعده فعمي مكانه " . وقال السدي : إن ناساً من الأنصار قالوا : يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها ونحن نشتاق إليك فكيف نصنع فنزلت . وليس المراد من كون المطيعين مع المذكورين في الآية أن كلهم في درجة واحدة فإن ذلك يقتضي التسوية بين الفاضل والمفضول وإنه محال ، ولكن المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضاً ، أو إذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا على ذلك . والتحقيق فيه أن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع بل ينعكس بعضها على بعض ويتقوى بعضها ببعض كالمرايا المجلوة المتقابلة .

{ إخواناً على سرر متقابلين }[ الحجر :47 ] . ثم إنه تعالى ذكر أصنافاً أربعة : النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولا شك في تغايرها متداخلة كانت أو متباينة . والمراد بالتداخل أن لا يمتنع كون كل متقدم موصوفاً بما يتلوه كأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صديقاً وشهيداً وصالحاً ، أو الصديق شهيداً وصالحاً ، وقد مر تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل البقرة ، وأما الصديق فمبالغة الصادق وهو من غلب على أقواله الصدق وإنه لخصلة مرضية في جميع الأديان ومحققة للنطق الذي هو من مقومات الإنسان ، وكفى به منقبة أن الإيمان ليس إلا التصديق ، وكفى بنقيضه مذمة أن الكفر ليس سوى التكذيب . وذكر المفسرون أكثرهم أن الصديقين في الآية كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك لقوله تعالى :{ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون }[ الحديد :19 ] وقال قوم : هم أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخصصه بعضهم بمن سبق إلى تصديق الرسول فصار في ذلك قدوة الناس كأبي بكر وعلي وأمثالهما ، ولا واسطة بين الصديق والنبي ولذلك قال في هذه الآية : { مع النبيين والصديقين } . وفي صفة إبراهيم { إنه كان صديقاً نبياً }[ مريم :41 ] يعني أنك إن ترقيت من الصديقين وصلت إلى النبوة وإن نزلت من النبوة وصلت إليهم . وأما الشهداء فالمراد بهم ههنا أعم من المقتولين بسيف الكفار كمن المسلمين . عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تعدون الشهيد فيكم ؟ قالوا : يا رسول من قتل في سبيل الله . قال : إن شهداء أمتي إذاً لقليل . من قتل في سبيل الله فهو شهيد ، ومن مات في الطاعون فهو شهيد ، ومن مات بالبطن فهو شهيد " . وفي رواية " ومن مات بجمع فهو شهيد " . وقيل : هو الذي يشهد لصحة دين الله تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان . وأقول : لا يبعد أيضاً أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى :{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس }[ البقرة :143 ] . وأما الصالحون فالصالح هو الذي صلح في اعتقاده وفي عمله وهذه مرتبة لا ينبغي أن تنحط عنها مرتبة المؤمن . ثم قال في معرض التعجب { وحسن أولئك رفيقاً } كأنه قيل : وما أحسن أولئك . والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه وانتصابه على الحال ، ويجوز أن يكون مفرداً بيّن به الجنس في باب التمييز . وقيل : معناه حسن كل واحد منهم رفيقاً كما قال { يخرجكم طفلاً }[ الحج :5 ] والرفق في اللغة لين الجانب ولطافة الفعل فسمي الصاحب رفيقاً لارتفاقك به وتصحيبه ، ومن الرفقة في السفر لارتفاق بعضهم ببعض . وقد يكون الإنسان مع غيره ولا يكون رفيقاً له فبيّن الله تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون كالرفقاء للمطيع من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته .

/خ70