{ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين } قال الكلبي : نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال : « يا ثوبان ما غير لونك ؟ » فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك ، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين ، وإنِّي وإن كنت أدخل الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك ، وإنْ لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبداً .
وحكي مثل قول ثوبان عن جماعة من الصحابة منهم : عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري ، وهو الذي أري الأذان قال : يا رسول الله ، إذا مت ومتنا ، كنتَ في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك ، وذكر حزنه على ذلك ، فنزلت .
وحكى مكي عن عبد الله هذا أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم اعمني حتى لا أرى شيئاً بعده ، فعمي .
والمعنى في مع النبيين : إنه معهم في دار واحدة ، وكل من فيها رزق الرضا بحاله ، وهم بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإنْ بعد مكانه .
وقيل : المعية هنا كونهم يرفعون إلى منازل الأنبياء متى شاؤوا تكرمة لهم ، ثم يعودون إلى منازلهم .
وقيل : إنّ الأنبياء والصدّيقين والشهداء ينحدرون إلى من أسفل منهم ليتذاكروا نعمة الله ، ذكره المهدوي في تفسيره الكبير .
قال أبو عبد الله الرازي : هذه الآية تنبيه على أمرين من أحوال المعاد : الأول : إشراق الأرواح بأنوار المعرفة .
وليس المراد بهذه المعية في الدرجة ، فإنّ ذلك ممتنع ، بل معناه : إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق ، فينعكس الشعاع من بعضها على بعض ، فتصير أنوارها في غاية القوة ، فهذا ما خطر لي انتهى كلامه .
وهو شبيه بما قالته الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد .
وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها ، ولكن من غلب عليه شيء وحبه جرى في كلامه .
وقوله : مع الذين أنعم الله عليهم ، تفسير لقوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } وهم من ذكر في هذه الآية .
والظاهر أن قوله : من النبيين ، تفسير للذين أنعم الله عليهم .
فكأنه قيل : من يطع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين تقدمهم ممن أنعم عليهم .
قال الراغب : ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب : النبي بالنبي ، والصديق بالصديق ، والشهيد بالشهيد ، والصالح بالصالح .
وأجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله : ومن يطع الله والرسول .
أي : من النبيين ومن بعدهم ، ويكون قوله : فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى .
ثم قال : { وحسن أولئك رفيقاً } ويبين ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين الموت « اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى » وهذا ظاهر انتهى .
وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى ، ومن جهة النحو .
أما من جهة المعنى فإنّ الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ، أخبر الله تعالى أنْ من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر ، ولو كان من النبيين معلقاً بقوله : ومن يطع الله والرسول ، لكان قوله : من النبيين تفسيراً لمن في قوله : ومن يطع .
فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه ، وهذا غير ممكن ، لأنه قد أخبر تعالى أنّ محمداً هو خاتم النبيين .
وقال هو صلى الله عليه وسلم : « لا نبي بعدي » وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها ، لو قلت : إنْ تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة ، لم يجز .
واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين .
فقال بعضهم : كلها أوصاف لموصوف واحد ، وهي صفات متداخلة ، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أنْ يكون صديقاً وشهيداً وصالحاً .
وقيل : المراد بكل وصف صنف من الناس .
فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب .
فقيل : هو الكثير الصدق ، وقيل : هو الكثير الصدقة .
وللمفسرين في تفسيره وجوه : الأول : أنّ كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } الثاني : أفاضل أصحاب الرسول .
الثالث : السابق إلى تصديق الرسول .
فصار في ذلك قدوة لسائر الناس .
وأما الشهيد : فهو المقتول في سبيل الله ، المخصوص بفضل الميتة .
وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم .
وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء ، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر ، بل نقول : الشهيد فعيل بمعنى فاعل ، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان ، وتارة بالسيف والسنان .
فالشهداء هم القائمون بالقسط ، وهم الذين ذكرهم الله في قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } والصالح : هو الذي يكون صالحاً في اعتقاده وعمله .
وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى ، إلى أدنى منه .
وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة الله وطاعة رسوله ، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله ، وأرفعهم درجات عنده .
وقال الراغب : قسم الله المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام ، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض ، وحث كافة الناس أنْ يتأخروا عن منزل واحد منهم : الأول : الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من قريب .
ولذلك قال تعالى : { أفتمارونه على ما يرى } الثاني : الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد وإياه عني أمير المؤمنين حين قيل له : هل رأيت الله ؟ فقال : ما كنت لأعبد شيئاً لم أره ثم قال : « لم تره العيون بشواهد الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان .
الثالث : الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين .
ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب ، كحال حارثة حيث قال : كأني أنظر إلى عرش ربي ، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : » اعبد الله كأنك تراه « الرابع : الصالحون ، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم ، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة .
وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : » اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك « انتهى كلامه .
وقال عكرمة : النبيون محمد صلى الله عليه وسلم ، والصديقون أبو بكر ، والشهداء عمر وعثمان وعلي ، والصالحون صالحو أمّة محمد صلى الله عليه وسلم انتهى .
وينبغي أن يكون ذلك على طريق التمثيل ، وأما على طريق الحصر فلا ، ولا يفهم من قوله : ومن يطع الله والرسول ظاهر اللفظ من الاكتفاء بالطاعة الواحدة ، إذ اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة لدخول المنافقين فيه ، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة ، بل يحمل على غير الظاهر بأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات ، وترك جميع المنهيات .
{ وحسن أولئك رفيقاً } أولئك : إشارة إلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
لم يكتف بالمعية حتى جعلهم رفقاء لهم ، فالمطيع لله ولرسوله يوافقونه ويصحبونه ، والرفيق الصاحب ، سمي بذلك للارتفاق به .
وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقاً على الحال من أولئك ، أو على التمييز .
وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون منقولاً ، فيجوز دخول من عليه ، ويكون هو المميز .
وجاء مفرداً إمّا لأن الرفيق مثل الخليط والصديق ، يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد .
وأمّا لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ويراد به الجمع ، ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة ، ويحتمل أن يكون منقولاً من الفاعل ، فلا يكون هو المميز والتقدير : وحسن رفيق أولئك ، فلا تدخل عليه مَن ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى مَن يطع الله والرسول ، وجمع على معنى من ويجوز في انتصاب رفيقاً إلا وجه السابقة .
وقرأ الجمهور : وحسُن بضم السين ، وهي الأصل ، ولغة الحجاز .
وقرأ أبو السمال : وحسْن بسكون السين وهي لغة تميم .
ويجوز : وحُسْن بسكون السين وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها ، وهي لغة بعض بني قيس .
قال الزمخشري : وحسن أولئك رفيقاً فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقاً .
ولاستقلاله بمعنى التعجب وقرئ : وحسْن بسكون السين .
وحسْنُ الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى كلامه .
وهو تخليط ، وتركيب مذهب على مذهب .
فنقول : اختلفوا في فعل المراد به المدح والذم ، فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط ، فلا يكون فاعلاً إلا بما يكون فاعلاً لهما .
وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس ، فيجعل فاعلها كفاعلهما ، وذلك إذا لم يدخله معنى التعجب .
وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل ، ولا في بقية أحكامهما ، بل يكون فاعله ما يكون مفعولاً لفعل التعجب ، فيقول : لضربت يدك ولضربت اليد .
والكلام على هذين المذهبين تصحيحاً وإبطالاً مذكور في علم النحو .
والزمخشري لم يتبع واحداً من هذين المذهبين ، بل خلط وركب ، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش ، وأخذ التمثيل بقوله : وحسن الوجه وجهك ، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي .
وأما قوله : ولاستقلاله بمعنى التعجب ، قرئ : وحسْن بسكون السين ، وذكر أن المتعجب يقول : وحسن وحسن ، فهذا ليس بشيء ، لأن الفرّاء ذكر أن تلك لغات للعرب ، فلا يكون التسكين ، ولا هو والنقل لأجل التعجب .