محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّـٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَـٰٓئِكَ رَفِيقٗا} (69)

ثم بين تعالى فضل الطاعة وأن ثمرتها مرافقة أقرب عباد الله إلى الله وأرفعهم درجات عنده . فقال :

( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا69 ) .

( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ) ولم يذكر المنعم به اشعارا بقصور العبارة عن تفصيله وبيانه ( من النبيين ) الذين أنبأهم الله أكمل الاعتقادات والأحكام . وأمرهم بانبائها الخلق ، كلا بمقدار استعداده ( والصديقين ) ( جمع صديق ) وهو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة ، وباطنه بالمراقبة . أو الذي يصدق قوله بفعله . كذا في ( المدارك ) .

قال الرازي : للمفسرين ( في الصديق ) وجوه :

الأول : أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق . و الدليل عليه قوله تعالى : ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) {[1973]} .

الثاني : قال قوم : الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه الصلاة / والسلام .

الثالث : أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام . فصار في ذلك قدوة لسائر الناس . وإذا كان الأمر كذلك ، كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أولى الخلق بهذا الوصف . ثم جود الرازي الكلام في سبقه رضي الله عنه إلى التصديق ، وفي كونه صار قدوة للناس في ذلك . فانظره . ( والشهداء ) الذين استشهدوا في سبيل الله تعالى ( والصالحين ) الذين صلحت أحوالهم وحسنت اعمالهم ( وحسن أولئك ) اشارة إلى النبيين والصديقين وما بعدهما ( رفيقا ) يعني في الجنة . والرفيق الصاحب . سمي رفيقا لارتفاقك به وبصحبته . وانما وحد ( الرفيق ) وهو صفة الجمع ، لأن العرب تعبر به عن الواحد والجمع . كالصديق والخليط . والجملة تذييل مقرر لما قبله ، مؤكد للترغيب والتشويق .

قال الزمخشري : فيه معنى التعجب . كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقا ! ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ ( وحسن ) بسكون السين .

تنبيهات

الأول : قال الرازي : ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين . . . الخ –كون الكل في درجة واحدة . لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول . وانه لا يجوز . بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وان بعد المكان . لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا . وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه . فهذا هو المراد من هذه المعية .

الثاني : دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف . وهو كون الإنسان صديقا . ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة . كما قال تعالى في وصف إسماعيل : ( انه كان صادق الوعد ) {[1974]} . وفي صفة إدريس : ( انه كان صديقا نبيا ) {[1975]} . وقال ( في هذه الآية ) : ( مع النبيين والصديقين ) . يعني انك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة . وان نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية . ولا متوسط بينهما . وقال في آية أخرى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به ) {[1976]} . فلم يجعل بينهما واسطة . وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة ، فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة ، حتى جعلوا الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر ، على سبيل الإجماع . ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما ذاك الا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية . فلا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها . أفاده الرازي .

الثالث : روى الطبري في سبب نزولها عن سعيد بن جبير قال : " جاء{[1977]} رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا فلان ! ما لي أراك محزونا ! فقال : يا نبي الله ! شيء فكرت فيه . فقال : ما هو ! قال نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك . غدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك . فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا . فأتاه جبريل بهذه الآية : ( ومن يطع الله والرسول ) الخ . فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره " . وقد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق وعن عكرمة وعامر الشعبي وقتادة وعن الربيع بن أنس . وهو من أحسنها سندا : قال الطبري{[1978]} : حدثني المثنى قال : حدثنا اسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال ( في هذه الآية ) : " ان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضله على من آمن به في درجات الجنة . ممن اتبعه وصدقه . فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا ؟ فأنزل الله في ذلك هذه الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ان الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم فيجتمعون في رياضها فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه . وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به . فهم في روضة يحبرون ، ويتنعمون فيه " . ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا عن عائشة . قالت : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! انك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي وأحب إلي من ولدي . واني لأكون في البيت فأذكرك . فما أصبر حتى آتيك ، فأنظر إليك . وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك ، إذا دخلت الجنة ، رفعت مع النبيين . وان دخلت الجنة خشيت أن لا أراك . فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه : " ومن يطع الله . . . ) الآية " . وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في ( صفة الجنة ) باسناد قال فيه : لا أرى به بأسا .

الرابع : روي في السنة في معنى هذه الآية أخبار وافرة . منها : في ( صحيح مسلم ){[1979]} عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال : " كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتيته بوضوء وحاجته فقال لي : سل : فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة . فقال : أو غير ذلك ؟ قلت : هو ذاك . قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود " . ومنها في ( مسند الإمام أحمد ) {[1980]} عن عمرو بن مرة الجهني : قال " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! شهدت أن لا اله الا الله وأنك رسول الله . وصليت الخمس وأديت زكاة مالي ، وصمت شهر رمضان . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مات على ذلك كان من النبيين والشهداء يوم القيامة هكذا ( ونصب أصبعيه ) ما لم يعق والديه " .

قال ابن كثير : تفرد به أحمد . ومنها ما رواه الإمام أحمد{[1981]} أيضا عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ ألف آية في سبيل الله تبارك وتعالى كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . ان شاء الله تعالى " . ومنها ما رواه الترمذي{[1982]} عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء " .

قال ابن كثير : وأعظم من هذا كله بشارة ، ما ثبت في ( الصحيح ) و ( المسانيد ) وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة : " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم{[1983]} سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ فقال : المرء مع من أحب .

/ قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث " .

وفي رواية عن أنس أنه قال : " اني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأحب أبا بكر وعمر . وأرجو أن يبعثني معهم ، وان لم أعمل كعملهم " .

وعن أبي سعيد الخدري{[1984]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق ، من المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم . قالوا : يا رسول الله ! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم . قال : بلى . والذي نفسي بيده ! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " . أخرجاه في ( الصحيحين ) من حديث الإمام مالك . واللفظ لمسلم .


[1973]:|57/ الحديد/ 19| ونصها: (والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم19).
[1974]:|19/ مريم/ 54| ونصها: (واذكر في الكتاب اسماعيل انه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا54).
[1975]:|19/ مريم/ 56| ونصها: (واذكر في الكتاب ادريس انه كان صديقا نبيا56).
[1976]:|39/ الزمر/ 33| ونصها: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون33).
[1977]:الأثر رقم 9924.
[1978]:الأثر رقم 9928.
[1979]:أخرجه مسلم في: 4 –كتاب الصلاة، حديث 226 (طبعتنا).
[1980]:جاء في (عمدة التفسير) بالصفحة 217 من الجزء الثالث. قال الأستاذ أحمد محمد شاكر معلقا على هذا الحديث ما يأتي: خفي علي مكانه من المسند. وبقوله أقول.
[1981]:أخرجه في المسند بالصفحة 437 من الجزء الثالث (طبعة الحلبي).
[1982]:أخرجه الترمذي في: 12 –كتاب البيوع، 4 –باب ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم اياهم.
[1983]:أخرجه البخاري في: 78 –كتاب الأدب، 96 –باب علامة حب الله عز وجل لقوله: (ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، حديث 2357 ونصه: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب". وأخرجه مسلم في: 45 –كتاب البر والصلة والآداب، حديث 163 (طبعتنا) ونصه: عن أنس بن مالك قال: جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: "وما أعددت للساعة؟" قال: حب الله ورسوله. قال: "فانك مع من أحببت". قال أنس: فما فرحنا، بعد الاسلام، فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فانك مع من أحببت". قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله، وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وان لم أعمل بأعمالهم.
[1984]:أخرجه البخاري في: 59 –كتاب بدء الخلق، 8 –باب ما جاء في الجنة وأنها مخلوقة، حديث 1540.