لما أمر اللَّه بطَاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رسُولِهِ بقوله : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ }
ثم زيَّف طريقَةَ المُنَافِقِين ، ثم أعَادَ الأمْر بطَاعَةِ الرَّسُول بقوله - [ تعالى ]{[8682]} - :
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ } ورغَّب في تِلْك الطَّاعَةِ بإيتَاءِ الأجْرِ العَظيمِ ، وهداية الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم ، أكد الأمْرَ{[8683]} بالطَّاعَة في هَذِه الآيَةِ مَرَّة أخْرَى ، فقال : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ } الآية ، وقال القُرْطبيّ{[8684]} : لما ذكر اللَّه - تعالى - الأمْر الذي لو فَعَلَهُ{[8685]} المُنافِقُون حِين وعظُوا به وأنَابُوا إليه ، لأنْعَمَ عليهم ، ذكر بعد ذَلِك ثَوابَ من يَفْعَلهُ .
قال جماعة من المفسِّرِين : " إن ثَوبَان مَوْلى رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانَ شَديد الحُبِّ لرسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قليل الصَّبْر عن فِراقِهِ ، فأتَاهُ يَوْماً وقد تَغَيَّر لَوْنُه ، ونحلُ جسمُه ، وعُرِف الحُزْن في وَجْهِه ، فقال [ له ]{[8686]} رسُول الله صلى الله عليه وسلم [ ما غيَّر لَوْنَك ؟ فقال : يا رسول الله ]{[8687]} مَا بِي من وَجَع غيْرَ أنِّي إذا لمْ أرَكَ ، اسْتَوْحَشْتُ وحْشَةً شَديدةً حَتَّى ألقاك ، فَذَكَرْتُ الآخِرَة فَخِفْتُ إلاَّ أرَاكَ هُنَاكَ ؛ لأنك تُرفعَ مع النبييِّن [ والصِّدِّيقين ]{[8688]} ، وإني إن أدخِلْتُ الجَنَّة ، كنت في مَنْزَلةٍ أدْنَى من مَنْزِلَتِك ، وإن لَمْ أدْخُلِ الجَنَّة ، فلا أرَاكَ أبَداً " ، فنزلَتْ [ هذه ]{[8689]} الآيَةَ{[8690]} .
وقال قَتَادة : إن بَعْض أصْحَاب النِّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا : كيف يَكُون الحَالُ في الجَنَّة وأنْتَ في الدِّرَجَات العُلَى ونَحْنُ أسْفَل مِنْك فَكَيْفَ نَرَاكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِه الآية{[8691]} .
وقال مُقَاتل : نَزَلَتْ في رَجُلٍ من الأنْصَارِ ، قال للنَّبِي صلى الله عليه وسلم يا رسُولَ اللَّه ، إذا خَرَجْنَا من عِنْدِك إلى أهْلِينَا اشْتَقْنَا إليك ، فما يَنْفَعُنَا شيء حتَّى نَرْجع إلَيْك ، ثم ذَكَرْتُ درجَتَكَ في الجَنَّة ، فكيف لَنَا بِرُؤْيَتك إن دَخَلْنَا الجَنَّة ، فنزَلَتْ هذه الآيةُ ، فلما تُوُفِّي النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : اللَّهُمَّ أعْمِنِي حّتَّى لا أرَى شَيْئاً بَعْدَهُ إلى أنْ ألقاه ؛ فعَمِيَ مَكَانَهُ ، فكان يُجِبُّ النبي حُبّاً شديداً ، فجعله الله مَعَهُ في الجَنَّةِ{[8692]} .
قال المُحَقِّقُون{[8693]} : لا تنكَرُ صحَّة هَذِهِ الرَّوَايَاتِ ؛ إلا [ أن ]{[8694]} سَبَب النُّزُّول يجب أن يكون شَيْئاً أعْظَم من ذَلِك ، وهو الحَثُّ على الطَّاعَةِ والتَّرغِيب فيهَا ، فإن خُصُوصَ السَّبَبِ لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفَظِ ، فالآيةُ عامَّةٌ في حَقِّ جميع المكلَّفين ، والمَعْنَى : ومَنْ يُطِع اللَّه في أدَاءِ الفَرَائِضِ ، والرَّسُولَ في السُّنَنِ .
ظاهر قوله : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ } يوجب الأكْثَر بالطَّاعَة الوَاحِدَة ، لأنَّ اللَّفْظَ الدالَّ على الصِّفَةِ يكفي في جَانِبِ الثُّبُوتِ حُصُول ذَلِكَ المُسَمَّى مَرَّة وَاحِدَة .
قال القَاضِي{[8695]} : لا بد{[8696]} من حَمْلِ هَذَا على غير ظاهره ، وأن تُحْمَل الطَّاعَة على فعل المأمُورَاتِ وتَرْك جَمِيع المنْهِيَّات ؛ إذ لو حَمَلْنَاهُ على الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار ؛ لأنهم قد يأتُونَ الطَّاعَةَ الوَاحِدَة .
قال ابن الخَطِيب{[8697]} : وعِنْدي فيه وَجْهٌ آخَر ، وهو أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ ، أن الحُكْمَ المَذْكُور عَقِيب الصِّفَةِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ{[8698]} ذلك الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوَصْفِ ، وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُول : قوله : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ } [ أي : ومن يُطِع الله ]{[8699]} في كَوْنِهِ إلهاً ، وذَلِكَ هو مَعْرِفَتُه والإقْرَار بِجَلالِهِ وعِزَّتِه وكبْرِيَائِه [ وقُدْرَته ]{[8700]} ، ففيها تَنْبِيهٌ على أمْرَيْن عظيمين مِنْ أمُور المَعَادِ :
الأوّل : منشأ جَميع السَّعَاداتِ يوم القيامَة وهُو إشْرَاق الروح بأنْوَارِ معْرفته تعالى ، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكْثَر ، وصَفَاؤُهَا أقْوَى ، وبُعْدُها عن التكَدُّر بعالم الأجْسَام ، كان إلى الفَوْزِ بالنجاة أقرب .
الثاني : قال ابن الخَطِيب{[8701]} : إنه - تعالى - وعد المُطيعين في الآيةِ المتقدِّمَة بالأجْر العَظِيم والهداية ، ووعَدهُم هنا بِكَوْنِهِم مع النبِيِّين [ كما ذكر في ]{[8702]} الآية ، وهَذَا الذي خَتَمَ به أشْرُف ممَّا قَبْلَهُ ، فليس المُرادُ مَنْ أطَاعَ اللَّه وأطاعَ الرَّسُول مع النَّبِيِّين والصِّدِّيقين - كَوْن الكل في دَرَجَةٍ واحِدَةٍ ؛ لأن هذا يقْتَضِي التسوية في الدَّرجة بين الفَاضِلِ والمَفْضُوُل ، وإنَّه لا يجُوزُ ، بل المُرادُ : كونُهم في الجَنَّةِ بحَيْثُ يتمكَّن{[8703]} كل واحدٍ مِنْهُم من رُؤيَة الأخَرَ ، وإن بَعُد المَكَان ؛ لأن الحِجَابِ إذَا زَالَ ، شَاهدَ بَعْضُهم بَعْضاً ، وإذا أرَادُوا الزِّيَارَة والتَّلاقِي قَدَرُوا عَلَيْهِ ، فهذا هُو المُرادُ من هَذِه المَعيَّة .
قوله : { مِّنَ النَّبِيِّينَ } فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أنه بَيَان ل { الذين أنعم الله عليهم } .
الثاني : أنه حالٌ من الضمير في " عليهم " .
الثالث : أنه حلٌ من الموصُولِ ، وهو في المَعْنَى كالأوَّل ، وعلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْن فيتعلَّق بمحْذُوف ، لأي : كَائِنين من النَّبِيِّين .
الرابع : أن يَتَعلَّق ب " يُطِع " قال الرَّاغِب : [ أي ]{[8704]} : ومن يُطِع اللَّه والرَّسُول من النَّبِيِّين ومَنْ بَعْدَهُم ، ويكون قوله : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم } إشارةٌ إلى الملإ الأعْلَى .
ثم قال : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } ويُبَيِّين ذلك قوله - عليه السلام - عند المَوْتِ : " اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى " وهذا ظاهِر ، وقد أفْسَدَهُ أبو حَيَّان من جِهَةِ المَعْنَى ، ومن جِهَةَ الصِّنَاعَة :
أمَّا من جِهَة المَعْنَى : فلأن الرَّسُول هُنَا هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقد أخْبَر- تعالى - أنَّه من يُطِع الله ورسُولَهُ ، فهو مع مَنْ ذَكَرَهُ ، ولو جَعَل " مع النبيين " متَعلِّقاً ب " يُطِع " ، لكان " من النبيين " تَفْسيراً ل " مَنْ " الشَّرطيَّة ، فَيَلْزَم أن يَكُونَ في زَمَانِهِ - عليه الصلاة والسلام - [ أو بَعْدَهُ أنْبياء ] .
وأمَّا من جِهَةِ الصِّنَاعَةِ ؛ فلأن ما قَبْلَ الفَاءِ [ يُطيعُونَه ، وهذا غَيْر ممْكِن ؛ لقوله تعالى : { وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } وقوله ]{[8705]} - عليه السلام - : " ولا نَبِيّ بَعْدِي " الوَاقِعَة جَوابَاً للشَّرْطِ لا يعمل فيما بَعْدَهَا ، لو قُلْت ، إن تَضْرِب{[8706]} يَقُم عَمْرو وزَيْداً{[8707]} لم يَجُزْ . وهل هذه الأوْصَاف الأرْبَعة لِصِنْفٍ واحدٍ أو لأصنَافٍ مختلفة ؟ قولان .
فصل في تفسير المراد بالنبي والصديق والشهيد
قيل : المُرَاد بالنَّبِيِّين والصِّدِّيقين والشُّهَداء والصَّالِحِين : صِنْفٌ واحد من النَّاس ، وقيل : المراد أصْنَاف مُخْتَلِفَة ؛ لأن المَعْطُوف يَجبُ أن يكُون مُغَايِراً للمعْطُوف عَلَيْهِ ، وقيل : الاخْتِلاَف في الأصْنَافِ الثَّلاثة غير النَّبِيِّين ، فالصِّدِّيقُون هُمْ أصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والصِّدِّيق : هو اسمٌ للمُبَالِغِ في الصِّدْقِ ، ومن عَادَته الصِّدْقُ .
وقيل : الصِّدِّيق : هو اسمٌ لمن سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صلى الله عليه وسلم ، [ وعلى هذا فأبُو بكر أوْلَى الخَلق بهذا الاسْم ؛ لأنَّهُ أول من سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صلى الله عليه وسلم ]{[8708]} ؛ واشْتَهَرَت الرِّوَاية بذلك ، وكان عَلَيَّ صَغِيراً واتَّفَقُوا على أنَّ أبا بَكْر لمَّا آمَنَ ، جَاءَ بَعْدَ ذلك بِمُدَّة قَلِيلَة بِعُثْمَان بن عَفَّان - رضي الله عنه - ، وطَلْحَة بن الزُّبَيْرِ ، وسَعْد بن أبي وقَّاص ، وعُثْمَان بن مَظْعُون - رضي الله عنهم - حتى أسْلَمُوا ، فكان إسْلامُه سَبَباً لاقْتِدَاء هؤلاء الأكَابِرِ بِهِ ؛ فثبت أنَّه - رضوان اللَّه عَلَيْه - كان أسْبَق النَّاس إسلاماً ، وإن كان إسلامُه صَار سَبَباً لاقْتِدَاء الصَّحَابَةِ في ذَلِكَ ، فَكَانَ أحَقَّ الأمَّة بهذا الاسْم أبو بكر ، وإذا كان كَذَلِك ، كان أفْضَل الخَلْقِ بعد الرَّسُول [ عليه الصلاة والسلام ]{[8709]} ، وجَاهَد في إسْلامِ أعْيَان الصَّحَابةِ - رضي الله عنهم - في أوّل الإسْلام ، حين كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في غَايَةِ الضَّعْفِ ، وَعَلَيٌّ - رضي الله عنه - إنما جاهَد يَوْمَ أحُدٍ ويَوْمَ الأحْزَابِ ، وكان الإسْلامُ قَوِيَّاً ، والجهاد وَقْتَ الضَّعْفِ أفْضَلَ من الجِهَادِ وقت القُوَّة ؛ لقوله - تعالى - :
{ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ [ مِن بَعْدل ]ُ{[8710]} وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [ الحديد : 10 ] ، ودلَّ تَفْسِير الصِّدِّيق بما ذَكَرْنَا ، على أنَّهُ لا مَرْتَبَةَ بعْد النُّبُوَّة [ أشْرَف ]{[8711]} في الفَضْلِ إلا الصِّدِّيق ، فإنه أينما{[8712]} ذُكِر النَّبِيُّ والصِّدِّيق لَمْ يُجْعَل بينهما وَاسِطَةِ ، قال - تعالى - في صفة اسْماعِيل : { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } [ مريم : 54 ] ، وفي صِفَةِ إدْرِيس : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } [ مريم : 41 ] ، وقال هُنَا ، { مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } وقال : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ، فلم يجْعَل بَيْنَهُمَا وَاسِطَة ، وقد وفَّقَ الله الأمَّة{[8713]} التِي هي خَيْر أمَّةِ ، حتى{[8714]} جَعَلُوا الإمام بعد الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أبا بَكْر على سبيل الإجْمَاع ، ولما تُوُفي - رضي الله عنه - دُفِنَ{[8715]} إلى جَنْبِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهذا دَليلٌ على أنَّ اللَّهَ - تعالى- رفع الواسِطَة بين النَّبِيِّين والصِّدِّيقين .
وأمَّا " الشهداء " قيل : هُمُ{[8716]} الذين استشهدُوا يوم أُحُد ، وقيل : الَّذِين استشهدُوا في سَبيل اللَّه .
وقال عكرمة - رضي الله عنه - : النَّبِيُّون هَهُنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، والصِّدِّيقُون أبُو بكر ، والشُّهَدَاء ، عُمَر وعُثْمَان وعَلِيّ ، والصَّالِحُون : سائر الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم [ أجْمَعِين ]{[8717]} {[8718]} .
قال ابن الخطيب{[8719]} : لا يجُوزُ أن تكون الشَّهَادَةُ مُقَيَّدة بكون الإنْسَانِ مَقْتُول الكَافِر ؛ [ لأن مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ مَرْتَبَة عَظيِمة في الدِّين ، وكون الإنْسَان مَقْتُول الكَافِر ]{[8720]} ليس زيَادة{[8721]} شَرَفٍ ، لأنّ هذا القَتْل قد يَحْصُلُ في الفُسَّاق ، وفِيمَن لا مَنْزِلَة له عِنْدَ اللَّه .
وأيضاً فإن المُؤمِن قد يَقُول : اللَّهُم ارْزُقْنِي الشَّهَادَة فلو كانت الشَّهَادَةُ عِبَارَة عن قَتْلِ الكَافِرِ إيَّاه ، لكَان قد طَلَبَ من اللَّه ذَلِكَ القَتْل{[8722]} ، وهو غَيْر جَائِزٍ ؛ لأنَّ صُدُور [ ذلك ]{[8723]} القَتْلِ من الكَافِرِ كُفْرٌ ، فَكَيْفَ يَجُوز أن يَطْلُب من الله ما هو كُفْرٌ ، وأيضاً قال - عليه الصلاة والسلام - : " المَبْطُونُ شَهِيدٌ ، والغَرِيقُ شَهِيدٌ " {[8724]} ، فَعَلِمْنَا أن الشَّهَادَةَ لَيْسَت عِبَارَة عن القَتْل ، بل نَقُول : الشَّهيدُ : " فَعِيلٌ " بمعنى " الفاعِل " ، وهو الَّذي يَشْهَدُ بِصِحَّة دِيِن اللَّهِ تارةً بالحُجَّة والبَيَان ، وأخْرَى بالسَّيْف والسِّنَان ، فالشُّهَدَاءُ هم القَائِمُون بالقِسْطِ ، وهم الَّذِين ذَكَرَهُم اللَّه - تعالى - في قوله :
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ }
[ آل عمران : 18 ] ويُقَال للمقتُول{[8725]} في سَبِيلِ الله : شَهِيدٌ ؛ من حَيْثُ إنَّه بذل نَفْسَهُ في نُصْرَة دِين الله ، وشَهَادَتهِ له بأنَّه{[8726]} هو الحَقُّ ، وما سِوَاهُ هو البَاطِل .
وأمّا الصَّالِحُون : فقد تَقَدَّم قول عِكْرِمَة : إنهم بَقِيَّة الصحابة وقيل : الصَّالِحُ من كان صَالِحاً في اعْتِقَادِه وفي علمه .
قوله : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } في نصب رَفيقاً قَوْلان :
والثاني : أنه حَالٌ ، وعلى تَقْدِير كَوْنِهِ تَمْييزاً ، فيه احْتِمَالاَن :
أحدهما : أن يكون مَنْقُولاً{[8727]} من الفَاعِلِيَّة ، وتَقْديره : وَحَسُن رَفيِقُ أولَئِك ، فالرَّفِيقُ على هَذا هذا غير المُمَيَّز ، ولا يجُوزُ دُخُولُ " مِنْ " عليه .
والثاني : ألاَّّ يكون مَنْقُولاً ، فيكون نَفْسُ المُمَيَّز ، وتدخل عليه " مِنْ " ، وإنَّمَا أتَى به هُنَا مفرداً ؛ لأحَد مَعْنَيَيْن :
إما لأن الرَّفِيق كالخَلِيطِ والصَّدِيقِ والرَّسُولِ والبريد ، تذهب به العَرَب إلى الوَاحِدِ والمُثَنَّى والمَجْمُوع{[8728]} ؛ قال - تعالى - : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
[ الشعراء : 16 ] وهذا إنَّما يَجُوز في الاسْم الّذي يكُون صِفَةً ، أمَّا إذا كَانَ اسماً مُصَرَّحاً كرَجُلِ وامْرَأة لم يَجْزْ ، وجوَّز الزَّجَّاج{[8729]} ذَلِك في الاسْمِ أيْضاً ، وزعم أنه مَذْهَب سِيبَويْه .
والمعنى الثَّاني : أن يكون اكْتَفَى بالوَاحِدِ عن الجَمْعِ لفهم المَعْنَى ، وحَسَّن ذَلِكَ كَوْنه فَاصِلة ، ويَجُوز في " أولئك " أن يكون إشَارَة إلى [ النبيين ومن بَعْدَهُم ، وأن يكُون إشارَةً إلى ]{[8730]} مَنْ يُطِع الله وِرسُوله ، وإنما جُمِعَ على مَعْنَاهَا ؛ كقوله [ تعالى ]{[8731]} : { نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ الحج : 5 ] وعلى هذا فَيُحْتَمَل أن يُقال : إنه رَاعَى لَفْظُ [ " مَنْ " ]{[8732]} فأفْرَد في قوله : " رفيقاً " ، ومَعْنَاها فجمع في قوله : " أولئك " إلا أن البَدَاءة في ذلك بالحَمْل على اللَّفْظِ أحسن ، وعلى هذا فيكون قد جَمَعَ فِيهَا بين الحَمْل على اللَّفْظِ في " يَطِعْ " ثم على المَعْنَى في " أولئك " والجمهُور على فتح الحَاءِ وضمّ السّين من " حَسُنَ " .
وقرأ أبو السَّمَّال{[8733]} : بفتحها وسُكُون السِّين تَخْفِيفَاً ، نحو : عَضْد في : عَضُد ، وهي لُغَةُ تَمِيم ، ويَجُوز " حُسْ " ، بضم الحَاءِ وسُكُون السين ، كأنهم نَقَلُوا حركة العَيْنِ إلى الفَاءِ بعد سَلْبِهَا حَرَكَتِها ، وهذه لُغَة بَعْضِ " قَيْس " ، وجعل الزَّمَخْشَرِيّ{[8734]} هذا من بَابِ التَّعَجُّبِّ ؛ فإنه قال : فيه معنى التَّعَجُّب ، كأنه قيل : وما أحْسَنُ أولَئِكَ رَفِيِقَاً ، ولاسْتِقْلاَلَه بمعنى التَّعَجُّب .
وقُرئ{[8735]} : " وحَسْن " بسُكون السِّين ؛ يقول المتعجب : حَسْنَ الوَجْهِ وَجْهُك ، وحَسْنُ الوَجْه وجْهك بالفَتْح والضَّمِّ مع التَّسْكِين .
قال أبو حَيَّان{[8736]} : وهو تَخْلِيط وتَرْكِيبُ مذْهب على مَذْهَبٍ ، فنقول اخْتَلَفُوا في فِعْلٍ المراد به المَدْح .
فذهب [ الفارسي ]{[8737]} وأكثر النُّحَاةِ : إلى جَوازِ إلْحَاقه ببَابِ " نِعْم " و " بِئْسَ " [ فقط ، فلا يكُون فَاعِلُهِ إلا مَا يكُون فَاعِلاً لَهُمَا .
وذهب الأخْفَش والمُبَرِّد إلى جَواز إلْحَاقِه بِبَابِ " نَعْمَ " و " بِئْسَ " ]{[8738]} ، فيُجْعَل فَاعِله كَفَاعِلَهمَا{[8739]} ، وذلك إذا [ لم ]{[8740]} يَدْخُلُه مَعْنَى التَّعَجُّب [ وإلى جَوَازَ إلْحَاقِه بفِعْل التَّعَجُّب ]{[8741]} فلا يجري مُجْرَى " نعم " و " بِئْس " في الفَاعِل ، ولا في بَقِيَّة أحْكَامِهما ، فَتَقُول : لَضَرُبَتْ يدك ولضرُبَت اليَدُ ، فأخذ التَّعَجُّبَ من مَذْهَب الأخْفَش ، والتمثيل من مَذْهَب الفارسيّ ، فلم يَتَّبع مَذْهَباً من المَذْهَبَيْن ، وأما جَعْله [ التَّسْكِين ]{[8742]} والنَّقْل دلِيلاً على كَوْنِهِ مُسْتَقِلاً بالتَّعَجُّب ، فغير مُسَلَّم ؛ لأن الفَرَّاء حَكَى في ذلك لُغَةً في غير مَا يُرَادُ به التَّعَجُّب .
و " الرَّفِيقُ " في اللُّغَة مأخُوذ من الرِّفْق ، وهو لينُ الجَانِبِ ولطافة{[8743]} الفِعْل{[8744]} ، وصَاحِبه رَفِيقٌ ، ثم الصَّاحِبُ يسمى رَفِيقاً ؛ لارْتفَاقِكَ به وبِصُحْبَتِه ، ومن هذا قِيل للجَمَاعة في السَّفَر : رُفْقَة ؛ لارتفاق بَعْضِهِم بِبَعْض ، والمَعْنَى : أن هَؤلاَءِ رُفَقَاء في الجَنَّة .
" روى أنَس ؛ أن رَجُلاً قال يَا رَسُولَ اللَّهِ : " الرَّجُل يُحبُّ قَوْماً ولَمَّا يَلْحَقْ بِهِم " قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ " {[8745]} .
وعن أنَس بن مَالِك قال : " قال رَجُل : يا رسُولَ الله{[8746]} مَتَى السَّاعة ؟ قالَ ومَا أعْدَدْتَ لَهَا ؛ فلم يَذْكُر كَثيراً إلا أنَّهُ يُحِبُّ الله ورسُوله . قال : فأنْتَ مع مَنْ أحْبَبْت " {[8747]} .