الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّـٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَـٰٓئِكَ رَفِيقٗا} (69)

قوله تعالى : { مِّنَ النَّبِيِّينَ } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه بيانٌ للذين أَنْعَم الله عليهم . والثاني : أنه حالٌ من الضميرِ المجرور في " عليهم " ، والثالث : أنه حالٌ من الموصولِ وهو في المعنى كالأول ، وعلى هذين الوجهين فيتعلَّق بمحذوفٍ أي : كائنين من النبيين . والرابع : أن يتعلَّق ب " يُطِعِ " قال الراغب : " اي : ومَنْ يُطِع الله والرسول من النبيين ومن بعدهم ، ويكونُ قوله : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم } إشارةً إلى الملأ الأعلى ، ثم قال : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } ويُبَي‍ِّن ذلك قولُه عليه السلام عند الموت : " اللهم أَلْحِقْني بالرفيق الأعلى " وهذا ظاهرٌ " انتهى . وقد أفسده الشيخ من جهة لامعنى ومن جهة الصناعة . أمَّا مِنْ جهةِ المعنى فلأِنَّ الرسولَ هنا هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، وقد أَخْبَرَ تعالى أنه مَنْ يُطِعِ الله ورسوله فهو مع ذُكر ، ولو جُعل " مِن النبيين " متعلِّقاً ب " يُطِع " لكان " من النبيين " تفسيراً ل " مَنْ " الشرطية " فيلزم أن يكونَ في زمانه عليه السلام أو بعده أنبياءُ يطيعونه ، وهذا غيرُ ممكنٍ لقوله تعالى : { وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [ الأحزاب : 30 ] وقوله عليه السلام : " لا نبيَّ بعدي " وأمَّا مِنْ جهةِ الصناعةِ فلأِنَّ ما قبل الفاء الواقعةِ جواباً للشرط لا يعمل فيما بعدها ، لو قلت : " إنْ تضرب يقم عمروٌ زيداً لم يَجُزْ " وهل هذه الأوصافُ الأربعةُ لصنفٍ واحدٍ من الناس أو لأصنافٍ مختلفة ؟ قولان .

قوله : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } في نصبِ " رفيقاً " قولان ، أحدهما : أنه تمييزٌ ، والثاني : أنه حالٌ ، وعلى تقديرِ كونِه تمييزاً في احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ منقولاً من الفاعلية وتقديرهُ : " وحِسُنَ رفيقُ أولئك " فالرفيقُ على هذا غيرُ المميِّز ، ولا يجوزُ دخولُ " مِنْ " عليه .

والثاني : ألاَّ يكونَ منقولاً ، فيكونُ نفسَ المميِّز ، وتدخل عليه " مِنْ " وإنما أتى به هنا مفرداً لأحدِ معنيين : إمَّا لأنَّ الرفيقَ كالخليطِ والصديق في وقوعِها على المفردِ والمثنى والمجموع بلفظٍ واحدٍ ، وإمَّا اكتفاءً بالواحد عن الجمعِ لفَهْمِ المعنى ، وحَسَّن ذلك كونُه فاصلةً . ويجوز في " أولئك " أن يكونَ إشارةً إلى النبيين ومَنْ بعدهم ، وأَنْ يكونَ إشارةً إلى مَنْ يُطِع اللَّهَ ورسولَه ، وإنَّما جَمَع على معناها ، وعلى هذا فيُحتمل أَنْ يقال : إنه راعى لفظ " مَنْ " فأفردَ في قوله " رفيقاً " ومعناها فجمع في قوله " أولئك " ، إلا أن البَداءَةَ في ذلك بالحَمْل على اللفظ أحسنُ ، وعلى هذا فيكونُ قد جَمَعَ فيها بين الحملِ على اللفظ في " يُطِعْ " ثم على المعنى في " أولئك " ثم على اللفظ في " رفيقاً " .

والجمهورُ على فتح الحاء وضم السين من " حَسُن " وقرأ أبو السمَّال بفتحِها وسكونِ السينِ تخفيفاً نحو " عَضْد " في " عَضُد " وهي لغة تميم ، ويجوز : " وحُسْن " بضم الحاء وسكون السين ، كأنهم نقلوا حركة العينِ إلى الفاء بعد سَلْبِها حركتَها وهذه لغةُ بعض قيس .

وجَعَل الزمخشري هذا من بابِ التعجب فإنه قال : " فيه معنى التعجب كأنه قيل : وما أَحْسَنَ أولئك رفيقاً ، ولاستقلاِله بمعنى التعجب قُرئ " وحَسْنَ " بسكون السين ، يقول المتعجب : " حَسُنَ الوجهُ وجهُك " و " حَسْن الوجهُ وجهك " بالفتح والضم مع التسكين " قال الشيخ : " وهو تخليطٌ وتركيب مذهبٍ على مذهبٍ ، فنقول : اختلفوا في " فَعُل " المرادِ به المدحُ : فذهب الفارسي وأكثر النحويين ، إلى جواز إلحاقهِ بباب نعم وبئس فقط فلا يكون فاعلُه إلا ما يكونُ فاعلاً لهما . وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فيُجْعَلُ فاعلُه كفاعِلهما ، وذلك إذا لم يَدْخُلْه معنى التعجب ، وإلى جواز ألحاقه بفعلِ التعجبِ فلا يَجْرِي مَجْرى نعم وبئس في الفاعل ولا في بقية أحكامهما ، فتقول : " لَضَرُبَتْ يَدُكَ " و " لَضَرُبَتِ اليدُ " ، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش ، والتمثيل من مذهب الفارسي ، فلم يَتَّبع مذهباً من المذهبين . وأمَّا جَعْلُه التسكينَ والنقلَ دليلاً على كونِه مستقلاً بالتعجبِ فغيرُ مُسَلَّمٍ ؛ لأنَّ الفراء حكى ذلك لغةً في غيرِ ما يُراد به التعجب " .