قوله تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم } ، أي : خلقنا لكم .
قوله تعالى : { لباساً } ، وقيل : إنما قال : { أنزلنا } لأن اللباس يكون من نبات الأرض ، والنبات يكون بما ينزل من السماء ، فمعنى قوله : { أنزلنا } ، أي : أنزلنا أسبابه ، وقيل : كل بركات الأرض منسوبة إلى السماء كما قال تعالى : { وأنزلنا الحديد } [ الحديد :25 ] وإنما يستخرج الحديد من الأرض ، وسبب نزول هذه الآية : أنهم كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة ، يقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها ، فكان الرجال يطوفون بالنهار ، والنساء بالليل عراة . وقال قتادة : كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحله
فأمر الله سبحانه بالستر فقال : { قد أنزلنا عليكم لباساً }
قوله تعالى : { يواري سوآتكم } ، يستر عوراتكم ، واحدتها سوأة ، سميت بها لأنه يسوء صاحبها انكشافها ، فلا تطوفوا عراةً .
قوله تعالى : { وريشاً } ، يعني : مالاً في قول ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، يقال : تريش الرجل إذا تمول ، وقيل : الريش الجمال ، أي : ما يتجملون به من الثياب ، وقيل : هو اللباس .
قوله تعالى : { ولباس التقوى ذلك خير } ، قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، والكسائي { ولباس } بنصب السين عطفاً على قوله لباساً ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره خير ، وجعلوا ذلك صلة في الكلام ، ولذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب { ولباس التقوى ذلك خير } . واختلفوا في لباس التقوى ، قال قتادة والسدي : التقوى هو الإيمان . وقال الحسن : هو الحياء لأنه يبعث على التقوى . وقال عطاء عن ابن عباس : هو العمل الصالح ، وعن عثمان بن عفان ، أنه قال : السمت الحسن ، وقال عروة بن الزبير : لباس التقوى خشية الله ، وقال الكلبي : هو العفاف ، والمعنى : لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس للتجمل ، وقال ابن الأنباري : لباس التقوى هو اللباس الأول ، وإنما أعاده إخباراً أن ستر العورة خير من التعري في الطواف . وقال زيد بن علي : { لباس التقوى } الآلات التي يتقى بها في الحرب كالدرع ، والمغفر ، والساعد ، والساقين . وقيل : لباس التقوى هو الصوف والثياب الخشنة التي يلبسها أهل الورع .
( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا . ولباس التقوى ، ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) . .
هذا النداء يجيء في ظل المشهد الذي سبق عرضه من القصة . . مشهد العري وتكشف السوآت والخصف من ورق الجنة . . لقد كان هذا ثمرة للخطيئة . . والخطيئة كانت في معصية أمر الله ، وتناول المحظور الذي نهى عنه الله . . وليست هي الخطيئة التي تتحدث عنها أساطير [ الكتاب المقدس ! ] والتي تعج بها التصورات الفنية الغربية المستقاة من تلك الأساطير ومن إيحاءات " فرويد " المسمومة . . لم تكن هي الأكل من " شجرة المعرفة " - كما تقول أساطير العهد القديم . وغيرة الله - سبحانه وتعالى - من " الإنسان " وخوفه - تعالى عن وصفهم علواً كبيراً - من أن يأكل من شجرة الحياة أيضاً فيصبح كواحد من الآلهة ! كما تزعم تلك الأساطير . ولم تكن كذلك هي المباشرة الجنسية كما تطوف خيالات الفن الأوربي دائماً حول مستنقع الوحل الجنسي ، لتفسر به كل نشاط الحياة كما علمهم فرويد اليهودي ! . .
وفي مواجهة مشهد العري الذي أعقب الخطيئة ومواجهة العري الذي كان يزاوله المشركون في الجاهلية يذكر السياق في هذا النداء نعمة الله على البشر وقد علمهم ويسر لهم ، وشرع لهم كذلك ، اللباس الذي يستر العورات المكشوفة ، ثم يكون زينة - بهذا الستر - وجمالاً ، بدل قبح العري وشناعته - ولذلك يقول : ( أنزلنا ) أي : شرعنا لكم في التنزيل . واللباس قد يطلق على ما يواري السوأة وهو اللباس الداخلي ، والرياش قد يطلق على ما يستر الجسم كله ويتجمل به ، وهو ظاهر الثياب . كما قد يطلق الرياش على العيش الرغد والنعمة والمال . . وهي كلها معان متداخلة ومتلازمة :
( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ) . .
كذلك يذكر هنا ( لباس التقوى ) ويصفه بأنه ( خير ) :
( ولباس التقوى ذلك خير . ذلك من آيات الله . ) . .
قال عبد الرحمن بن أسلم : [ يتقي الله فيواري عورته ، فذاك لباس التقوى ] . .
فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة ، وبين التقوى . . كلاهما لباس . هذا يستر عورات القلب ويزينه . وذاك يستر عورات الجسم ويزينه . وهما متلازمان . فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه . ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري . . العري من الحياء والتقوى ، والعري من اللباس وكشف السوأة !
إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي - كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهملتدمير إنسانيتهم ، وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون - إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان ؛ ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر ؛ وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق .
والله يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر ، صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم ! وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل :
ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم ؛ والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي - باسم الزينة والحضارة والمودة ! - وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم ، والتعجيل بانحلالهم ، ليسهل تعبيدهم لملك صهيون ! ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفوس ! فحتى هذه توجه لها معاول السحق ، بتلك الحملة الفاجرة الداعرة إلى العري النفسي والبدني الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان ! والزينة " الإنسانية " هي زينة الستر ، بينما الزينة " الحيوانية " هي زينة العري . . ولكن " الآدميين " في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة . فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانيتهم وصيانتها !
{ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا } أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة ، ونظيره قوله تعالى : { وأنزل لكم من الأنعام } وقوله تعالى : { وأنزلنا الحديد } . { يواري سوآتكم } التي قصد الشيطان إبداءها ، ويغنيكم عن خصف الورق . روي : أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها ، فنزلت . ولعله ذكر قصة آدم مقدمة لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان ، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم . { وريشا } ولباسا تتجملون به ، والريش الجمال . وقيل مالا ومنه تريش الرجل إذا تمول . وقرئ " رياشا " وهو جمع ريش كشعب وشعاب . { ولباس التقوى } خشية الله . وقيل الإيمان . وقيل السمت الحسن . وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء وخبره : { ذلك خير } أو خبر وذلك صفته كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي { ولباس التقوى } بالنصب عطفا على { لباسا } . { ذلك } أي إنزال اللباس . { من آيات الله } الدالة على فضله ورحمته . { لعلهم يذكّرون } فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح .
وقوله تعالى : { يا بني آدم } الآية ، هذا خطاب لجميع الأمم وقت النبي عليه الصلاة والسلام ، والمراد قريش ومن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت ، ذكر النقاش ثقيفاً وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج وعامراً والحارث ابني عبد مناف فإنها كانت عادتهم رجالاً ونساءً ، وذلك غاية العار والعصيان ، قال مجاهد ففيهم نزلت هذه الأربع الآيات ، وقوله : { أنزلنا } يحتمل أن يريد التدرج أي لما أنزلنا المطر فكان عنه جميع ما يلبس ، قال عن اللباس أنزلنا ، وهذا نحو قول الشاعر يصف مطراً .
أقبل في المستن من سحابه*** اسنمة الآبال في ربابه
أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة ب { أنزلنا } كقوله { وأنزلنا الحديد فيه بأس } وقوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } وأيضاً فخلق الله عز وجل وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة ، و { لباساً } عام في جميع ما يلبس ، و { يوراي } يستر ، وفي حرف أبيّ «سوءاتكم وزينة ولبس التقوى » وفي مصحف ابن مسعود «ولباس التقوى خير ذلكم » ، ويروى عنه ذلك ، وسقطت «ذلك » الأولى ، وقرأ سكن النحوي «ولبوسُ التقوى » بالواو مرفوعة السين ، و قرأ الجمهور من الناس «وريشاً » وقرأ الحسن وزر بن حبيش وعاصم فيما روى عنه أبو عمرو أيضاً ، وابن عباس وأبو عبد الرحمن ومجاهد وأبو رجاء وزيد بن علي وعلي بن الحسين وقتادة «ورياشاً » ، قال أبو الفتح : وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو حاتم : رواها عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وهما عبارتان عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود الملبس والتمتع ، وفسره قوم بالأثاث ، وفسره ابن عباس بالمال ، وكذلك قال السدي والضحاك ، وقال ابن زيد «الريش » الجمال ، وقيل «الرياش » جمع ريش كبير وبئار وذيب وذياب ولصب ولصاب وشعب وشعاب وقيل الرياش مصدر من أراشه الله يريشه إذا أنعم عليه ، والريش مصدر أيضاً من ذلك وفي الحديث«رجل راشه الله مالاً » .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن هذا كله من معنى ريش الطائر وريش السهم إذ هو لباسه وسترته وعونه على النفوذ ، وراش الله مأخوذ من ذلك ، ألا ترى أنها تقرن ببرى ومن ذلك قول الشاعر : [ لعمير بن حباب ]
فرشني بخير طال ما قد بريتني*** وخير الموالي من يريش ولا يبري
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «ولباسَ » بالنصب عطفاً على ما تقدم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة «ولباسُ » بالرفع فقيل هو خبر ابتداء مضمر تقديره وهو لباس ، وقيل هو مبتدأ و { ذلك } مبتدأ آخر و { خير } خبر { ذلك } ، والجملة خبر الأول ، وقيل هو مبتدأ و { خير } خبره و { ذلك } بدل أو عطف بيان أو صفة ، وهذا أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة .
وقوله : { ذلك من آيات الله } إشارة إلى جميع ما أنزل من اللباس والريش ، وحكى النقاش أن الإشارة إلى لباس التقوى أي هو في العبد آية علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه ، و { لعلهم } ترج بحسبهم ومبلغهم من المعرفة وقال ابن جريج { لباس التقوى } الإيمان ، وقال معبد الجهني : هو الحياء ، وقال ابن عباس هو العمل الصالح ، وقال أيضاً ، هو السمت الحسن في الوجه ، وقاله عثمان بن عفان على المنبر ، وقال عروة بن الزبير هو خشية الله ، وقال ابن زيد هو سترة العورة ، وقيل { لباس التقوى } الصوف وكل ما فيه تواضع لله عز وجل ، وقال الحسن : هو الورع والسمت والحسن في الدنيا ، وقال ابن عباس { لباس التقوى } العفة ، وقال زيد بن علي { لباس التقوى } السلاح وآلة الجهاد .
قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها مثل وهي من { لباس التقوى } .
قال القاضي أبو محمد : وتتصور الصفة التي حكاها أبو علي في قوله : { ذلك } لأن الأسماء توصف بمعنى الإشارة كما تقول جاءني زيد هذا كأنك قلت جاءني زيد المشار إليه فعلى هذه الحد توصف الأسماء بالمبهمات ، وأما قوله فيه عطف بيان وبدل فهما واحد في اللفظ إنما الفرق بينهما في المعنى والمقصد وذلك أنك تريد في البدل كأنك أزلت الأول وأعملت العامل في الثاني على نية تكرار العامل ، وتريد في عطف البيان كأنك أبقيت الأول وأعملت العامل في الثاني وإنما يبين الفرق بين البدل وعطف البيان في مسألة النداء إذا قلت يا عبد الله زيد فالبدل في هذه المسألة هو على هذا الحد برفع زيد لأنك تقدر إزالة عبد الله وإضافة «يا » إلى زيد ولو عطفت عطف البيان لقلت يا عبد الله زيد لأنك أردت بيانه ولم تقدر إزالة الأول وينشد هذا البيت : [ الرجز ]